38serv
عن الترمذي من حديث معاذ بن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: “من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، وأنكح لله، فقد استكمل الإيمان”. ثلاث وعشرين سنة قضاها المعصوم كلها دعوة، منها ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الإيمان، يدعو إلى لا إله إلا الله، وذلك قبل نزول التشريعات والأحكام. فلما استقر الإيمان في قلوب الخلق، انقادوا للعمل، الصحب الكرام رضي الله عنهم لما حققوا الإيمان، سارعوا إلى الامتثال. وللأسف، فنحن أكثرنا اليوم لا يمتثل أمرا، ولا يجتنب نهيا، وهذا بسبب عدم تحقيق الإيمان. وحال الناس مع الصلاة نموذجا، فأكثر المسلمين مفرط، يسمع المنادي ولا يجيب.
وسنعرّج على أمثلة عدّة يظهر فيها مدى سرعة استجابة الصحب الكرام رضوان الله عنهم لأمر الله وأمر رسوله، إن دلّ على شيء فإنما يدل على عظيم تحقيق الإيمان واستقراره في القلوب. فالخمر كما هو معلوم، تعدّ من أنفس أموال العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، وكان بعض المسلمين يشربها كالماء، بل إن اقتصاد العرب وتجارتهم كانت تقوم عليها. لكن، ما إن سمع القوم بحرمتها حتى قالوا: سمعنا وأطعنا. يقول أنس: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر مناديا فنادى، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت، فخرجت فقلت: هذا منادٍ ينادي: “ألا إن الخمر قد حرمت”، فقال لي: اذهب فأهرقها فجرت في سكك المدينة وأزقتها.
وهذا أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه يتصدق بأنفس أمواله لأجل آية نزلت على المعصوم، يقول خادم رسول الله أنس بن مالك: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب، فلما أنزلت هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: “بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح”. فتصدق أبو طلحة بأنفس أمواله ليحقق مرتبة البر، مع أن الله تعالى لم يأمره بذلك.
أما ماعز بن مالك رضي الله عنه فقد جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، طهرني، فقال: “ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه”، فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله، طهرني، فقال رسول الله: “ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه”، فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله، طهرني، فقال النبي مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله: “فيم أطهرك”؟ فقال: من الزنا. فسأله رسول الله: “أبك جنون”؟ قال: لا، ليس بي جنون، فقال: “أشربت خمرا”؟ قال: لا، فقال صلّى الله عليه وسلم: “أزنيت”؟ فقال: نعم، فأمر به فرجم، فكان الناس فيه فريقين؛ قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، فقال رسول الله: “استغفروا لماعز بن مالك، فقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم”.
إن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي جعل القوم يسارعون إلى امتثال أمر الله وأمر رسوله؟ إنه تحقيق الإيمان، هو الذي جعلهم يقدمون قول الله ورسوله على شهواتهم وملذاتهم. فاعلم، أيها الحبيب، أن من حقق الإيمان بالله تعالى، استقام على شرع الله تعالى، فإذا آمنت بأسماء الله، أثمر ذلك خوفك من عذاب الله، ورجاءك فيما عند الله، وإذا آمنت بأن الله هو الرزاق، توكلت عليه وحده في جلب الرزق دون ما سواه، وإذا آمنت بأن الله يسمعك ويراك، فلن تكذب لأنك توقن أن الله يسمعك، ولن تغتاب أحدا لأنك توقن أن الله يسمعك، ولن تتكاسل عن الصلاة لأنك توقن أن الله يراك. يقول الحق سبحانه: {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك إلا في كتاب مبين}.. والله ولي التوفيق.
إمام مسجد عمر بن الخطاب
- بن غازي - براقي