+ -

صار من أسمج الكلمات على سمعي حين أسمع المتكلمين (خاصة من يؤتى بهم إلى الفضائيات) يردون سبب كل مشكلة إلى نقص الوعي!، ويختصرون حل كل مشكلة في التوعية!، والحق أن هؤلاء المحللين والمتكلمين هم فقط من ينقصه الوعي!، ويجب أن يعي: أن مشكلتنا الحقيقة هي في الإرادة والعزم والفعالية وليس في الوعي نقصا وقلة!.

فأكاد أجزم أن أغلب أو كل الانحرافات والاختلالات والآفات التي نعاني منها يعي الناس خطورتها وأبعادها، وكل أو أغلب من يشارك فيها ويغرق في مستنقعها واعٍ تماما بحقيقتها، ولكنه ضعيف الإرادة، خائر العزم، خامد الفعالية في مقاومة إغراءاتها، وهذا ما يعانيه المسلم المعاصر منذ عقود، فهو يعرف الصواب من الخطأ، والنافع من الضار، والمصلحة من المفسدة، ولكنه مفتقد للعزيمة التي تقويه على سلوك طريق الصواب والنافع والمصلحة، وتكبحه عن طرق سبيل الخطأ والضار والمفسدة. وقد يكون في قوله تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما}، قال الشيخ ابن عاشور رحمه الله: “والمراد هنا: العزم على امتثال الأمر وإلغاء ما يحسن إليه عدم الامتثال”، فآدم عليه السلام كان عالما بعداوة إبليس وقد عهد الله تعالى له بذلك، ولكن ضعفت عزيمته عليه السلام لحكمة الله البالغة؛ ولهذا جاءت هذه الآية الصريحة: {ولم نجد له عزما}.

وقد يكون هذا المعنى ما يشير إليه قوله تعالى أيضا: {يا يحيى خُذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا}، فالكتاب الذي هو وحي أحكم الحاكمين سبحانه هو أعظم وعيّ وأرقاه، والاهتداء به يحتاج إلى قوة وعزيمة، وكذلكم قال سبحانه لبني إسرائيل: {خذوا ما آتيناكم بقوة}.

وعليه فإن ما تعيشه غزة وتعانيه منذ أشهر، وما تعيشه قضية فلسطين والمسجد الأقصى وتعانيه منذ عقود هو نتيجة ضعف العزيمة والإرادة والفعالية لدى المسلمين، وليس نقص الوعي بالقضية وأبعادها، وهل يوجد الآن إنسان في العالم لم يسمع بغزة؟، ولم يسمع أنّات أهل غزة؟، ولم ير بأم عينيه الإبادة الجماعية الوحشية التي تتعرض لها غزة وأهلها؟، ولكن الغالبية العظمى خاصة من العرب والمسلمين يعيشون نياما في بُلهنية وشاع الحرب قد سطعا وأحرق!!

الذي آثار في خاطري هذه الفكرة أني كنت أطالع أعدادا من مجلة ((الرسالة)) الغراء، التي صدرت في عام 1948م مواكبة للنكبة وتأسيس الكيان الصهيوني بأرض فلسطين فوقعت على مقالات رائقة للأديب الكبير أحمد حسن الزيات رحمه الله، والأديب النصراني الكبير نقولا حداد حول قضية فلسطين نبهوا فيها على بعض المعاني المتعلقة بها، والتي بقينا نرددها ونكررها لسنوات، مما يبين أن الوعي لم يكن غائبا يوما عنا بحقيقة قضية فلسطين وحقيقة الصراع فيها، ولكن المشكلة مشكلة إرادة وعزيمة، فهذان أديبان كبيران، وليسا عالمين من علماء الشرع، لا داعيين من دعاة الحركة الإسلامية وكتبا ما كتبا، فهل خفي عن (ولاة الأمور) وعموم الشعوب هذه المعاني، أم هو العجز والتخاذل، وخور العزم، وهزال الإرادة؟. وستسمح القراء الكرام في رك الميدان لهذين الفارسين فليس لمثلي كلام بحضرتهما، أنقل فقرتين لكل منهما ذات مغزى كبير.

يقول الأستاذ نقولا حداد في مقال له بعنوان (أيها العرب العالم كله يحاربكم): “أشرف لكم أن تشرب الأرض دماءكم من أن تنزف نزفا بطيئا بين براثن الصهيونية”. (الرسالة، أغسطس 1948م)، فيا ليت المتصهينين المعاصرين من ولاة وعلماء وعامة فهموا هذا؟ وقال في مقال في العدد الموالي مبينا حقيقة الصهاينة: “.. هذه الفصيلة من المخلوقات الحية ليست من جنس البشر ذات قلوب رقيقة، وعواطف شريفة، وضمائر حية.. إنما هي بلا ضمير ولا عاطفة ولا قلب ولا إحساس ولا شرف.. فصيلة الأحياء الخبيثة”. (الرسالة، 30 أوت 1948م)، فهل خفي هذا عن المتصهينين المعاصرين من ولاة وعلماء وعامة؟. يقول الأستاذ نقولا حداد أيضا في مقال بعنوان (لو أصبح لليهود دولة)، وهو مقال مختصر حقيق بالمطالعة: “إنه إذا لم تمحق جماعة إسرائيل المزيفة -ولا تمحق إلا بالسلاح- كان أولى كوارثنا أن الجامعة العربية تفقد هيبتها وتسقط قيمتها.. ومتى انحلت الجامعة العربية ضعف جدا استقلال كل دولة بحيث تستطيع جماعة إسرائيل أن تستغل هذا الضعف بسهولة كلية، إذ يمكنها أن تلقي شباكها الاقتصادية، فتصيد الدول العربية واحدة واحدة، بأية حجة حتى بالقتال، ثم تتحكم فيها، إذ تأسرها باللطف الاقتصادي والتحالف السياسي.. وثالثة الأثافي أن ما كنا نتبجح به من الإجماع على مقاطعة المنتجات اليهودية، والإعراض عن معاملة اليهود إلى أن يضيق بهم العيش، وينضب الرزق (ويطفشوا) من البلاد رويدا... إن هذا الظن يذهب حينئذ مع ريح الإغراءات الصهيونية المتنوعة.. إن ثبتت قدم الصهيونيين (لا سمح الله) فسيكون كل هذا بعد عشرين أو ثلاثين سنة”. (الرسالة، عدد 20 سبتمبر 1948م)، وقف طويلا مع كلامه عن المقاطعة الاقتصادية، هذه الوسيلة الفعالة والتي تمثل أضعف الإيمان في دعم الجهاد، والتي فرّط فيها الكثير من الواعون الذين لا عزيمة لهم ولا إرادة؟... ثم ابتسم من استعمال الأستاذ نقولا حداد لجملة (لا سمح الله)، التي استعملها الملثم المبارك أبو عبيدة في خطابه الشهير.

أما الأستاذ أحمد حسن الزّيات رحمه الله تعالى فيقول: “لو كان في الدنيا حق لما كان لفلسطين قضية، ولو كان في الناس عدل لما اصطلح على ظلمنا الشيوعية والرأسمالية، ولو كان في الأمر اختيار لما تركت سيوفنا من يهوذا بقية!، ألا إن أفدح الخطوب أن يخاصم القرود الأسود، وإن أقبح الحروب أن يقاتل العرب اليهود!”. (الرسالة، 13 سبتمبر 1948م)، وهذا كلام يحط من قدره التعليق عليه، ويقول أيضا: “إذا قلت: إن القوة التي في فلسطين لليهود، فكأنما قلت: إن للأرانب دولة في غاب الأسود”. (الرسالة، 17 ماي 1948م)، وهذا تعبير يتراقص جمالا ويشع دلالة أن عدونا في فلسطين هو الغرب وفي مقدمته أمريكا، وليس حفنة الصهاينة شذاذ الآفاق.
وأرجو أن تكون الرسالة المجملة وصلت من مقتطفات مجلة الرسالة.