أهمية التخطيط الاقتصادي واستشراف المستقبل في تحقيق التنمية

38serv

+ -

 اهتمت الشريعة الإسلامية بالجانب الاقتصادي بقدر اهتمامها بجانب العبادة، فقد خلق الله عز وجل الأرض الإسلامية مليئة بالخيرات والبركات وسخّر للإنسان الكون ومنح له الحق في الاستفادة منه، كما قال الله تعالى في سورة لقمان: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات والأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة}، ونفهم من هذه الآية أن الكون مسخر للإنسان، والذي بدوره يعدّ عاملا أساسيا في تسيير وإدارة خيرات الله. والأمة الإسلامية مكلّفة بالتسيير والتخطيط الاقتصادي على قدر الطاقة، ولو أحسن المسلمون التدبير، لما احتاجوا للغرب ولا للشرق ولا احتاج العالم بأسره إليهم، ولاستغنوا عنه.

ولقد وضع الإسلام التخطيط كأسلوب لاستخدام موارد الأمة واستغلالها وإدارتها وتنظيمها وحبك لهذا التخطيط أهدافا من أجل إنجاحه، لمواجهة بذلك كل تطوّرات ومستجدات الحياة، ويمكننا تلخيص الأهداف في أن يكون اقتصاد الأمة اكتفائيا، من خلال ترتيب الأمور على أساس الاكتفاء بالموجود، ونهج سياسة الاستغناء عن الآخرين، وتحرير أوضاعنا الاقتصادية من سيطرة الدول الأجنبية. وأن تُؤمَّن لكل فرد من أفراد المجتمع حاجاته الأساسية، لما روي من قوله صلّى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته”.

والتخطيط في الإسلام ينبغي أن يهدف أيضا لتحقيق الأمن والمنعة، يقول تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}. كما أن التخطيط لا يقوم على الظن والخبط خبط عشواء، بل على المعرفة والحقائق المستنبطة من المعلومات والبيانات الجيدة الصحيحة، والتخطيط بوضع الأهداف يكون دائما في حدود الطاقات والإمكانيات، يقول سبحانه وتعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.

إن من أهم قواعد التعامل مع الحياة ومعطياتها ما يعرف اليوم باستشراف المستقبل، وهو ما يسعى العالم للأسبقية فيه، والتنافس في مضمار المستقبل أضحى الآن ميدانا للتقدم ومقاسا للقوة والتحكم في مصائر الشعوب، واستشراف المستقبل بشكل صحيح يظل حاكما بالتقدم والتقهقر على أصعدة عدة.

أما عن التخطيط الاقتصادي في الإسلام، فقد هدف إلى أن يجد كل مسلم ما يكفيه من مال، فحرّم الربا وأمر بالزكاة. قال تعالى: {يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}.

فكانت هنالك جملة معطيات تتقدمها أفكار إدارية وحلول استثنائية لمواجهة الأزمات الاقتصادية الخانقة التي تمرّ بها أمة ما أو دولة ما، وأهم هذه الأفكار لمواجهة الأزمات الاقتصادية التنبؤ بالأزمة، وتوقع مدتها الزمنية.

أما على صعيد التخطيط، فقد جاءت الآيات السابقة بخطة إدارية محكمة تبدأ بترشيد الطاقة وعدم تبذيرها؛ لتكون زادا في لحظة العسر والشدة التي ستأتي بعد مدة، وفي هذا السياق ترشيد للطاقة وصيانة للجهد من الهدر والتضييع، حيث لا رخاء دائم ولا عسر دائم.

إن أول شرط للقيادة وصنع السياسة هو توفر الرؤية، فلا بد أن تتوفر لدى صانع السياسة القدرة على تكوين رؤية مستقبلية، واستشراف لما يمكن أن يكون عليه المستقبل، ووضع سيناريوهات بأسوأ الاحتمالات لأزمات مستقبلية والإعداد لها بوضع الحلول المناسبة استباقيا.

ولتكوين رؤى واستشراف سليم للمستقبل، هناك حاجة لبناء القدرات البحثية على مستوى المؤسسة والوزارة، والاهتمام بالباحثين والأبحاث والنشر المهني والعلمي، ومراكمة رأس المال البشري المتخصص، ولن يتم ذلك إذا كانت الإدارة ضعيفة وفاقدة للأهلية.

لقد اهتم يوسف بالتخطيط كنهج للتفكير والتدبر بشكل فردي وجماعي في أداء عمل مستقبلي، مع ربط ذلك بمشيئة الله تعالى ثم بذل الأسباب المشروعة في تحقيقه، مع كامل التوكل والإيمان بالغيب فيما قضى الله وقدره على النتائج، لقد كان من ثمار تدبير يوسف عليه السلام وتخطيطه أن حفظ الشعب من الهلاك والجوع وخرج من الشدائد وعاد إلى الرخاء، وفي هذا القصص القرآني إشارات إلى واقع تخطيطي لكي ندرك أن الإسلام لا يقوم على التخمين أو التواكل، ولكنه يهتم بأدق الأساليب وأعمقها في جوانب الاقتصاد أو السياسة أو غيرها، وكان لهذا القصص أثره البالغ في بناء الدولة الإسلامية على أسس التخطيط والإدارة واستشراف المستقبل.