من المعروف أن جمهور العلماء يقسمون المعاصي إلى صغائر وكبائر، وفي مقابلهم قلة من العلماء يرون كل المعاصي كبائر، على قاعدة: لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت!، فأي معصية إذا نظرنا إليها باعتبارها مخالفة مقصودة لأمر الله وحكمه وشرعه في ملكه وبعلمه وهو سبحانه يرانا ويعلم منا السر وأخفى، فهي كبيرة!، هذا رأيهم وله وجهه بلا شك.
لكن أغلبية العلماء يستندون على نصوص قرآنية صريحة تجعل المعاصي: كبائر وصغائر، كقول الحق سبحانه: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما}، {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}.
واختلف العلماء في المعايير التي تصنف المعاصي على أساسها المعاصي إلى كبائر وصغائر، وبالطبع اختلفوا بسبب ذلك في كثير من المعاصي هل هي كبائر وصغائر؟.
والمقام لا يسمح بالاستفاضة في اختلاف العلماء في فقه الكبيرة، ولكن الذي أريد التنبيه عليه، هو معنى خطير يخفى على كثير من الناس، وهو أن المعاصي يزداد وزرها، ويكبر إثمها بحسب كبر ضررها وسعته واستمراره في الزمن، فالمعصية التي يتضرر بها شخص أو شخصان أو مجموعة أشخاص محدودة أقل شرا وإثما من المعصية التي يشقى بها شعب كامل أو شعوب أو أجيال من الأمة!، والمعصية التي يبقى أثرها في زمن محدود ثم يضمحل أقل شرا وإثما من المعصية التي يدون أثرها ويمتد لحقب زمانية متطاولة متواصلة!، والمعصية التي يتحدد ضررها ببقعة من الأرض لا يتجاوزها أقل شرا وإثما من المعصية التي ينتشر شرها وأثرها ليشمل أماكن فسيحة، وربما يعبر الدول والقارات!.
من الآيات الدالة على هذا المعنى الخطير قوله سبحانه وتعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون}، وقوله تبارك وتعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون}، ومنها أيضا قوله جل شأنه: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون}، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيرها: “قوله تعالى: {زدناهم عذابا فوق العذاب}، فإن هذه الزيادة من العذاب لأجلِ إضلالهم غيرهم. والعذاب المزيد فوقه: هو عذابهم على كفرهم في أنفسهم، بدليلِ قوله في المضلين الذين أضلوا غيرهم: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}، وقوله: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}”.
ومن الأحاديث المشهورة المجلية المقررة لهذا المعنى الخطير، قوله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» رواه مسلم، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل» رواه البخاري ومسلم. وهي كلها نصوص صريحة في تزايد الإثم باستمرار الأثر وتكاثره وانتشاره.
هنا ينظر الإنسان إلى بعض الأحداث الكبيرة التي تمر بالأمة، ويسقط من حسابه تأويلات بعض العلماء الجاهزين دائما لتبرير الوقائع، والحجر على عقول الناس من التفكير، كما يسقط الدعاية الرخيصة لبعض وسائل الإعلام التي تزوق الصور البشعة وتحاول تغطية الشمس بغربال مثقوب أصلا!؛ ليرى أن الإنسان كلما كان صاحب مسؤولية كبيرة كلما كان أثره كبيرة مساحة وزمانا وأشخاصا مما يجعل اعتداءاته على الشرع أو القانون من المعاصي العابرة للأجيال والأزمان والقارات!.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة