إن ما بذله علماء الاستشراق من جهود علمية وفنية في إخراج أمهات التراث العربي الإسلامي –التي حصلوا على نوادرها من دار السلام (بغداد) وهي ألوف مؤلفة إما سرقة أو شراء أو إهداء– انطلاقا من القرن السادس عشر الميلادي لا يجرؤ أحد على إنكارها، بل يرى أ.د. حاتم صالح الضامن، رحمه الله، بأنهم كانوا بحق أساتذة هذا الجيل في الطرائق العلمية الجيدة التي ساروا عليها في نشر كتب التراث وتيسير الإفادة منها. إلا أن هؤلاء ينطلقون في تعاملهم مع التراث الإسلامي من منطقات متقلبة بين الجحود والإنصاف، وقليل هم المنصفون علميا في دراستهم ومعالجتهم وتقييمهم لنصوص التراث العربي الإسلامي، ومع هذا الإنصاف وحرصهم البيّن عليه، إلا أنهم يقعون في أوهام كبيرة وواضحة، خاصة فيما يتعلق بألفاظ اللغة العربية وتراكيبها ودلالاتها ومصطلحات علومها وفنونها، والسبب في ذلك بيّن لأنهم لم يأخذوا هذا العلم من أهله العلماء، وإنما تجرعوه من بطون الكتب ويبحثون في لسان ليس بلسانهم، ويدرسون مادة لم تمتزج بأرواحهم بل تجافيها مبدءا ومقصدا.
لكن ما ميّز عمل المستشرقين في تحقيق التراث، على وجه العموم، الدقة العالية في وصف النسخ؛ حيث لا يتركون لا شاردة ولا واردة إلا وأشاروا إليها، مع الحرص على جمع أكبر عدد ممكن منها، يضاف إلى ذلك عنايتهم بوضع الفهارس المساعدة للباحث في الوصول إلى المعلومة التي يبتغيها، مع اهتمام واضح بشكل الطباعة، ولم يكن عمل المستشرقين هذا عملا ارتجاليا بل كان في معظمه عملا منظما مدروسا ومدعوما؛ لأنه كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بالمعاهد والجامعات.
أما ما جاء به هؤلاء من قواعد وآليات في عمل التحقيق فيما يتعلق بالمقابلة بين النسخ، والتصحيح، وإصلاح الأخطاء، وعلاج السقط والزيادة والتشابه بين قسم من الحروف، وصنع الحواشي، ووضع علامات الترقيم والرموز والاختصارات، وثبت المصادر، فقد كانوا في معظم جوانبه عالة على علماء الإسلام، وبالتدقيق علماء الحديث، ولم يكونوا مبتكرين لجميع عناصره وقواعده، وتفاصيل التعامل مع مادته وأهله، وإنما استفادوا استفادة عظيمة وجليلة مما تركه علماؤنا الأوائل في هذا المجال؛ لأن علماءنا المتقدمين قد كتبوا في قواعد التحقيق أصولا نفيسة وأسفارا منيفة.
ولقد علق الأستاذ حاتم صالح الضامن على هذا الموضوع قائلا: (لقد اطلع المستشرقون على قسم من هذه الكتب، وأفادوا منها في وضع القواعد تحقيق النصوص، وتابعنا نحن المستشرقين، وكأن البضاعة بضاعتهم، وهي في الحقيقة بضاعتنا ولكن القصور فينا؛ إذ لم نطلع على ما كتبه أسلافنا رحمة اللهِ عليهم).
فالدارس لتراثنا العلمي، والمتأمل في تاريخنا الثقافي يجد أن علماء الحديث هم أول من حرص على أداء النص، كما ورد عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، سواء نقل هذا النص مشافهة أو عن نص مكتوب، وقد استنكر ابن الصلاح أن يطالع أحدهم كتابا منسوبا إلى مصنف معيّن وينقل عنه، إلا إذا وثق بصحة النسخة بأن قابلها هو أو ثقة غيره بأصول متعدّدة. وقد ذكر ابن الصلاح في موقع آخر من كتابه؛ أنه إن أراد أن ينقل حديثا بأن يرجع إلى أصل قد قابله، هو أو ثقة غيره بأصول صحيحة متعدّدة بروايات متنوعة؛ ليحصل له بذلك –مع اشتهار هذه الكتب وبعدها من أن تقصد بالتبديل والتحريف– الثقة بصحة ما اتفقت عليه تلك الأصول.
كما أننا نجد لهم كلاما قيّما في مسألة تقويم الأخطاء لأي النسخ وكيفية تصحيحها، فالأمر عندهم أن الخطأ الوارد في النسخة يكتب كما ورد، وتوضع عليه إشارة تفيد خطأ. ويصحّح في الهامش، ويسمى ذلك “التضبيب”، وفي هذا الصدد، يقول القاضي عياض: “يكتب على ما أشكل عليه ولم يظهر له وجه ضبة، وهي صورة رأس صاد مهملة هكذا “صـ«؛ فإن صح بعد ذلك وتحققه فيصلها بحاء فتبقى “صح”، ويقول العلموي: ويكتب فوق ما وقع في التصنيف، أو في النسخ وهو خطأ “ذا” صغيرة؛ أي؛ هكذا رأيته، ويكتب في الخاشية؛ “صوابه كذا” إن كان بتحققه أو “لعله كذا” إن غلب على ظنه أنه كذلك. ومن هذا القبيل كثير من النصوص في كتب المحدثين الذين طرقوا هذا الباب وتفننوا في مسائله، فأصلوا فيه ما أصلوا وقعدوا فيه ما قعدوا.
لقد كان المستشرقون، في بداية الأمر، إذا وجدوا كتابا من كتب القدماء قاموا بطبعه، ولا يبحثون عن النسخ الأخرى لهذا الكتاب، ولا يصححون أخطاءه البسيطة، فلما ارتقى علم الآداب القديمة، عمدوا إلى جمع النسخ المتعدّدة لكتاب من كتب القدماء، وإلى المقابلة بين هذه النسخ المتعدّدة، وكانوا كلما تخالفت النسخ في موضع من المواضع، اختاروا إحدى الروايات المختلفة ووضعوها في نص الكتاب، وقيدوا ما بقي من الروايات في الهوامش.
وفي المقابل، يجب أن لا ننكر أن المستشرقين قد استفادوا أيضا مما كتبه أسلافهم من قواعد في نشر تراث الآداب اليونانية واللاتينية وآداب القرون الوسطى، ثم استعانوا بتلك القواعد في نقد المخطوطات العربية والشرقية وإخراجها، مع الارتكاز الكبير على ما وضعه علماء الإسلام في هذا الباب.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر