38serv
إن أصل كلمة التحقيق من الحق نقيض الباطل، وحقق الرجل: إذا قال الشيء هو الحق، ويقال أحققت الأمر إحقاقا إذا أحكمته وصححته، وبناء عليه، يكون معنى التحقيق هو التصديق والتثبيت ومقاربة اليقين. ولكن أسلافنا لم يستعملوا هذه الكلمة بالذات للدلالة على التحقيق، بل استعملوا بدلا منها كلمة التحرير فقالوا: إن تحرير الكتاب خلوصه وتقويمه. أما في اصطلاح العلماء، فالتحقيق هو بذل عناية خاصة بالمخطوطات حتى يمكن التثبت من استيفائها لشرائط معيّنة؛ فالكتاب المحقق هو الذي صح عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان أقرب ما يكون للصورة التي تركها مؤلفه.
وبناء على ذلك، فإن الجهود التي تبذل في كل مخطوط يجب أن تتناول البحث في الزوايا الآتية: تحقيق عنوان الكتاب، وتحقيق اسم المؤلف، وتحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وتحقيق متن الكتاب حتى يظهر بقدر الإمكان مقاربا لنص المؤلف، قال صلاح الدين المنجد في التحقيق: “غاية التحقيق هو تقديم المخطوط صحيحا كما وضعه مؤلفه دون شرحه”. قال الدكتور عبد الستار الحلوجي: “وهو بهذا المعنى أمر لا غنى عنه في نشر تراثنا المخطوط؛ لأن نسخة المؤلف غالبا ما تكون مفقودة، وغالبا ما يتجمع لنا من الكتاب الواحد نسخ متعددة تتفاوت فيما بينها تفاوتا شديدا، ويصبح نشر أي منها على حاله أمرا قد يكون مقبولا من الناحية التجارية، ولكنه مرفوض من الناحية العلمية”.
ويرى الغرياني أن التحقيق ليس مقصورا على المخطوطات من التراث، بل إن كثيرا من الكتب المطبوعة حاجتها إلى التحقيق أمس من بعض المخطوطات لما أصابها من تحريف وتشويه واضطراب؛ فالنص الذي يطبع محرفا يصيب الناس منه ضرر ووبال؛ لأنه إن كان في علوم الشرع والحديث، ربما أدى إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام، أو الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بنسبة شيء إلى الحديث وهو ليس منه، وإن كان في غيرهما من العلوم، ربما أعطى أحكاما خاطئة؛ لأن ما يبنى على الخاطئ خاطئ. وعليه، فإن كثيرا من كتب تراثنا التي أخرجتها المطابع على غفلة من التحقيق، بها حاجة بالغة إلى من يراجع أصولها المخطوطة؛ ليصلح ما فيها من تحريف وتشويه.
ويضرب لنا الدكتور رمضان عبد التواب مثالا غاية في الدلالة على مسألتنا، فيقول: “ويكفي للتدليل على هذه القضية مراجعة النص الذي اقتبسه الإمام السيوطي في القبائل التي تؤخذ عنها اللغة، عن كتاب “الألفاظ والحروف” لأبي نصر الفارابي الفيلسوف المشهور، يقول السيوطي في كتابه “المزهر”: وبالجملة، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرؤون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر لمجاورتهم القبط والفرس”، ويعلق الدكتور رمضان عبد التواب قائلا: “ويقف المرء حائرا أمام هذا النص؛ إذ كيف باليمن أن تكون بالجزيرة مجاورة لليونان، ثم كيف لبكر أن تمتد بجناحيها في شمال الجزيرة فتجاور في الشرق الفرس في إيران كما تجاور في الغرب القبط في مصر”.
وعندما وقف الدكتور رمضان عبد التواب أمام هذا النص قبل عشرين عاما، رأى من المهم مراجعة كتب السيوطي اللغوية في محاولة للعثور على هذا النص مرة أخرى، إذ من المألوف أن كثيرا من المؤلفين يستخدمون النص الواحد في أكثر من كتاب من مؤلفاتهم لمناسبات شتى، وقد صدق حدس الرجل إذ وجد النص نفسه مرة أخرى في كتاب “الاقتراح في أصول النحو” للسيوطي، وفيه صواب العبارة: “ولا من تعلب والنمر، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية، ولا من بكر لأنهم كانوا مجاورين للنبط والفرس”.
واختلف أنظار العلماء فيما هو المطلوب من المحقق، فرآه قوم أنه لا يزيد عن ضبط النص، بينما زاد عليهم آخرون توضيح الغوامض وتخريج النصوص من مصادرها، ووضع الفهارس، وتنقيح الكتاب حتى يخرج من المطبعة إلى القارئ بحلته الجديدة. وقد أضاف آخرون إلى ذلك قيام المحقق بتوزيع فقرات المخطوط، وإن لم يكن له فقرات، وتفصيل أبوابه، وترقيم صفحاته إن خلا من ذلك، وشرح الغامض من عبارته، وإلحاقه بفهارس المنظمة؛ فالتحقيق بإيجاز هو فن إحياء الكتاب المخطوط، وقديما قيل: “تأليف كتاب أهون من إصلاحه”.
فالغاية من تحقيق التراث وإخراج نصوصه هي إحياؤه من سباته العميق، وبعثه للحياة من جديد، وإخراجه للناس على الوجه الذي أراده مؤلفوه أن يكون عليه، دون الزيادة فيه أو الإنقاص منه، أو تعديل غير مطلوب ولا تقتضيه الأمانة العلمية في التحقيق. وغاية مثل هذه تقتضي من القائمين بها والساعين إليها غاية الجهد بإمعان النظر والتدقيق في نصوصها، ووجوه ألفاظها، واقتفاء أثر تراكيبها ومعانيها، وتصحيح ما ألحقته يد النساخ من التصحيف والتحريف بمبانيها ومفرداتها، واستدراك ما غيّب الزمان والمكان من عباراتها، بل فقراتها، وربما كان نصيبه بضعا من أوراقها...
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر