سلوك الشريعة في حسم مادة الفساد في التصرفات المالية

+ -

اتفقت الأمة على أنه لا يجوز من البيوع إلا بيع المعلوم من معلوم بمعلوم بأي طريق من طرق العلم وقع، وما وقع بين العلماء من الاختلاف في ذلك راجع إلى تفاصيل طرق العلم، ولهذا قال الحنفية: يجب أن يكون البيع معلوما وثمنه معلوما علما يمنع من المنازعة، فإن كان أحدهما مجهولا جهالة مفضية إلى المنازعة فسد البيع، وإن كان مجهولا جهالة لا تفضي إلى المنازعة لا يفسد، لأن الجهالة إذا كانت مفضية إلى المنازعة كانت مانعة عن التسليم والتسلم فلا يحصل مقصود البيع، وإذا لم تكن مفضية إلى المنازعة لا تمنع من ذلك فيحصل المقصود.

وحتى لا يقع المجيزون لبيع الغائب على الصفة في مفسدة الجهالة اشترطوا بأن ينزل كل وصف من أوصاف السلعة الغائبة على أدنى رتبته وصدق مسماه لغة لعدم انضباط مراتب الأوصاف في الزيادة والنقص فيؤدي ذلك للخصام والجهالة بالبيع.

وحسما لمادة الجهالة في عقود المعاوضات ذهب المالكية إلى أنه لا يجوز في شيء من السلع أن تكون مدة الخيار فيه مجهولة، فإن عقدا على ذلك كقولهما: إلى قدوم زيد ولا أمارة عندهم على قدومه، أو إلى أن يولد لفلان ولا حمل عنده، أو إلى أن تنفق سوق السلعة ولا أوان يغلب على الظن عرفا أنها تنفق فيه، إلى غير ذلك مما يرجع إلى الجهل بالدمة فالبيع فاسد، لكن إن وقع العقد على أنه بالخيار ولم يعين مدة مجهولة ولا معلومة فالعقد صحيح ويحمل على مثل خيار السلعة.

وإضافة إلى ما سبق فقد منعت الشريعة كل أنواع الغش والتدليس. والمقصود بالغش هو كتم حال المبيع عن المبتاع وعن البائع إذا جهله وقد علمه المبتاع، وذلك ممنوع شرعا وعرفا، ومستند هذا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر على رجل يبيع طعاما مصبرا فأدخل يده في الصبرة فرأى فيها بللا قد أصابته السماء فأخرجه إلى ظاهر الصبرة، وقال: (من غشنا فليس منا).
ويدخل في هذا بيع الصبرة يعلم البائع بكيلها ولا يعلم المشتري ذلك، فلا يجوز ذلك حتى يعلمها جميعا أو يجهلها جميعا، وإنما يمتنع ذلك من الجهة الواحدة.

ومن ذلك أن يدخل الرجل السوق بفص يظنه زجاجا، فإذا رآه المشتري تحقق أنه فص ياقوت، فهذا غش إن انعقد البيع عليه لم يجز وكان البائع بالخيار.
وأما التدليس فهو إخفاء العيب الموجود في المبيع عن المبتاع وبناء على هذا فإن كل شيء دلس فيه بائعه بعيب فهلك ذلك الشيء المعيب من ذلك العيب المدلس به كان ضمانه من بائعه.

إلا أن البائع إذا كان غير مدلس ما أصاب ذلك الشيء المشترى من هلاك أو نقص كان بسبب العيب أو بغير سببه فإن مصيبته من المشتري ونقصه عليه. وبهذا يتبين لنا أن الشريعة حرصت على قطع كل مسلك يمكن أن يكون وسيلة يتطرق الفساد من خلالها إلى مختلف المعاملات والتصرفات المالية، أو يكون سببا في إلغاء الملكية على أصحابها، أو التنقيص منها، أو تفويت جزء من أموالهم دون عوض يقابله في تلك العقود والتصرفات.

واعتمادا على هذا المعنى ذهب الشافعي في مسألة القضاء في البيع الفاسد إلى أن الرجل إذا باع بيعا فاسدا واتصل به القبض، فإنه يرد في كل وقت وعلى كل حالة، ولا يؤثر فيه عيب ولا حوالة السوق، ولا يتوقف فيه بيع سلعة، وإن ترتب عليه بيع صحيح نقض ذلك ورجع كلما دفع البائع والمبتاع إلى صاحبه، لأن كل ما انبنى على غير قاعدة فهو واه، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: “من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد”.

وعلق ابن العربي على مذهب الشافعي في هذه المسألة فقال: (هي مسألة عظيمة انفرد بها الشافعي دون مالك وأبي حنيفة وقوي عليهم فيها).

*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر