38serv

+ -

 يقول الحق سبحانه: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا، وبذي القربى واليتامى...}. قال الحافظ ابن كثير: أمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له، فهو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه، وهو المستحق منهم أن يوحدوه، ولا يشركوا به شيئا... ثم قال: {واليتامى} وذلك لأنهم قد فقدوا من يقوم بمصالحهم، وينفق عليهم، ويحنو عليهم.

اليتيم هو من مات أبوه وهو دون سن البلوغ، سواء كان ذكرا أو أنثى، ويستمر وصفه باليتم حتى يبلغ: «لا يتم بعد احتلام»، فمن فقد أباه الذي كان يهذبه ويربيه وينصره، فهو اليتيم، ولهذا كان تابعا في الدين له، فنفقته وحضانته عليه، فالإنفاق رزق، والحضانة نصر، فإذا عُدم أبوه طمعت النفوس فيه؛ لأن الإنسان ظلوم جهول، وفجور الآدمي لا وازع له.

ولأهمية هذه الطائفة في المجتمع؛ فقد ورد ذكر اليتيم في كتاب الله اثنتين وعشرين مرة، وجعل سبحانه البذل للأيتام من خصال أهل البر: {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى}، ووبخ سبحانه من لم يكرم يتيما: {كلا بل لا تكرمون اليتيم}، وقرن قهره وظلمه بالتكذيب بيوم الدين فقال: {الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم}، كما نهى ربنا صفوة خلقه أن يقهر أحدا منهم: {فأما اليتيم فلا تقهر}.

كما أمر الله بحفظ أموال الأيتام، ونهى عن قُربها إلا بالحسنى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}، فلا يتولى أموالهم إلا القوي الأمين، ونهى صلى الله عليه وسلم الضعيف أن يتولى شيئا من أموالهم فقال: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم»، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه وكافل اليتيم في الجنة سواء: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا»، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما.

 وإطعام الأيتام سبب لدخول الجنة: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا}، ومن أراد تليين قلبه فليمسح رأس اليتيم، وأطيب المال ما أُعطي منه اليتيم: «إن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل».

وعدّ الشارع الاعتداء على مال اليتيم من كبائر الذنوب: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا}، وقد ابتلي نبينا صلى الله عليه وسلم باليتم، فقد توفي والده وأمه حامل به، ثم توفيت أمه وعمره ست سنين، قال تعالى ممتنا على نبيه: {ألم يجدك يتيما فآوى}، ويجب على الأمة والأوصياء على الأيتام الإحسان إليهم: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير}، ومن ذلك تأديبهم، وإبعادهم عن رفقاء السوء، وتعليمهم الأخلاق الكريمة والآداب الحسنة.

ومن النماذج المشرقة لصغار عاشوا حياة اليتم، وأصبحوا من علماء الأمة، الإمام الشافعي، مات أبوه وهو دون العامين، فنشأ في حجر أمه في قلة من العيش، وضيق من الحال، يقول: كنت يتيما في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فساد أهلَ زمانه. ومنهم الإمام أحمد بن حنبل، مات والده وهو في بطن أمه، وعاش حياة فقر قاسية، فحضنته أمه وأدبته، وأحسنت تربيته، يقول: كانت أمي توقظني قبل الفجر، ثم تنطلق بي إلى المسجد في طريق بعيد مظلم موحش لتصلي معي صلاة الفجر في المسجد، وتبقى معي حتى منتصف النهار. ومنهم الإمام البخاري صاحب الصحيح، فقد نشأ يتيما في صغره، وقرأ على ألف شيخ، وصنف كتابه الصحيح وغيره من الكتب النافعة. وهذا اليتيم «ابن الجوزي» أعظم خطباء ووعاظ عصره، كان يحضر مجالسه للوعظ مائة ألف إنسان، ما منهم إلا من رق قلبه أو دمعت عينه. ومن أفذاذ الأيتام العلامة الزاهد جلال الدين السيوطي، والعلامة «ابن حجر العسقلاني» صاحب الفتح، ومحدث الديار الشامية «الأوزاعي»، ومنهم أعظم الشعراء «المتنبي»، وحافظ إبراهيم. أما أعظم القادة الأيتام، فمنهم طارق بن زياد، وعماد الدين زنكي، وعبد الرحمن الداخل، والظاهر بيبرس، ومنهم عمر المختار الذي قاد الجهاد الليبي، ومنهم الشهيد أحمد ياسين، القعيد الذي أرعب اليهود رغم معاناته من الشلل، ونيلسون مانديلا أعظم حكام إفريقيا وغيرهم. لقد تجاوز هؤلاء جميعا عقبات اليتم، وتساموا على كسرته، وارتفعوا على عتبات ذله، وسمت نفوسهم على ضعف اليتم وانكساره.. والله الموفق.


إمام مسجد عمر بن الخطاب - بن غازي - براقي