بعد أن لاح لنا بجلاء تام مفهوم المقاصد الشرعية بصفة عامة، والمقاصد العامة بصفة خاصة، يبقى جدير بنا أن نخلص هذا المفهوم من بعض المعاني التي قد تلتبس به، أو هي من شاكلته، وهذه المصطلحات هي: “الحكمة” و«المعنى”.
*الفرق بين المقصد الشرعي والحكمة
لم أر خلافا فيما استطعت الاطلاع عليه في إعطاء “الحكمة” مفهوم المقصد، بل ذهب بعضهم إلى استعمال ذلك عمليا في تعبيراته، فهذا ابن فرحون المالكي في كتابه “تبصرة الحكام” وهو يتكلم عن مقاصد القضاء، يعبّر عنها “بالحكمة” فيقول: “وأما حكمته رفع التهارج، ورد النوائب، وقمع الظالم، ونصر المظلوم، وقطع الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وأكد الونشريسي هذا المعنى صراحة في كتابه “المعيار المعرب” عندما قال: و«الحكمة” في اصطلاح المتشرعين هي المقصود من إثبات الحكم أو نفيه، وذلك كالمشقة التي شرع القصر والإفطار لأجلها”.
إن الكلام السالف الذكر يبين بوضوح أن استعمال لفظ “الحكمة” هو نفسه استعمال لفظ “المقصد”، وهذا حوله تحفظ كبير، لأن “الحكمة” لا تضم تحتها الأوصاف الظاهرة المنضبطة مثل العلة، بينما المقصد يضم ذلك، وتعد العلة جزءا منه، بل الأساس الذي يعتمد عليه.
وانطلاقا من هذا الكلام، لا مجال للتسوية بينهما، وأما إطلاقات الفقهاء المشار إليها، فإنهم عبروا عن “المقصد”، وذلك في جانبه الذي تشكله الحكمة. أما التعبير عن المقصد برمته بلفظ الحكمة، فهذا غير مستساغ؛ لأن العلاقة التى تربط “المقصد” بـ: “الحكمة” علاقة خصوص وعموم، فكل “حكمة” هي “مقصد” من مقاصد الشارع، وليس كل “مقصد” هو “حكمة”، للأسباب المذكورة سابقا.
*الفرق بين المقصد الشرعي والمعنى
حتى يتسنى لنا فهم مدى العلاقة بين المصطلحين ومواقع استعمالهما، نقوم باستقصاء بعض آراء العلماء والباحثين؛ لتكون لنا بمنزلة المنارة، نهتدي بها إلى الصواب. فالإمام ابن جرير الطبري في كتابه “جامع البيان في تفسير القرآن”، يعبر بلفظ “المعنى” بدل لفظ “المقصد”، وذلك من خلال كلامه عن مقاصد الزكاة، فقال: “والصواب من ذلك عندي أن الله جعل الصدقة في معنيين، أحدهما سدّ خَلَّةِ المسلمين، والآخر معونة الإسلام وتقويته”.
والذي يمكن استخلاصه من هذا الكلام أن العلماء الأوائل كانوا يستعملون لفظ “المعنى” بدل لفظ “المقصد”، وأكد هذا الكلام الأستاذ الريسوني في كتابه “نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي”، فقال: “إن التعبير بالمعنى والمعاني، كان هو السائد عند المتقدمين، ثم زاحمته، وحلت محله شيئا فشيئا ألفاظ “العلة” و«الحكمة” و«المقصود”، لكن كلامه يبقى معه شيء من التحفظ. فعلى الرغم من شيوع مصطلح “المقصد” و«العلة”، إلا أن التعبير “بالمعنى” بدلهما بقي موجودا، فالإمام الغزالي في كتابه “شفاء الغليل” مثلا نلاحظه يعبر “بالمعنى” بدل “المقصود”، فيقول: “وعلى الجملة المفهوم من الصحابة اتباع المعاني والاقتصار في درك المعاني على الرأي الغالب دون اشتراط درك اليقين”.
ولو تقدمنا نحو عصرنا، ونحن نمر على الإمام الشاطبي، ونتوقف عند الإمام ابن عاشور، لوجدنا “المقصد” و«المعنى” عندهما يأخذان وصفا واحدا في الدلالة عند ارتباطهما بالأحكام الشرعية، فالإمام الشاطبي يقول في هذا الصدد: “الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخرى هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها، ويقول الإمام ابن عاشور وهو يعرف المقاصد العامة: “هي المعاني...”.
ومن خلال هذا العرض لآراء العلماء والباحثين في الموضوع، تبيّن لي: أن “القصد” و«المعنى وصفان لأمر واحد لا يوجد بينهما خلاف، فالتعبير بأحدهما يغني عن الآخر، ويؤدي مدلوله في الموضوع”.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر