حينما يحل فصل الصيف يطول النهار، وتنتشر الحركة ليلا إلى مطلع الفجر، وتكثر ـ كما يقول أشقاؤنا في المشرق ـ "الزيطة والعيطة"، وتنتشر الأعراس والأفراح، وتُستَنفر العائلات الجزائرية في كل زوايا الوطن، وتباشر الترتيبات والتحضير لتلك المناسبة المبهجة، توجد فئة أخرى لا تهتم تماما لهذه المظاهر، لأنها اختارت العزوبية كحتمية أو خيار طريقة للعيش، مصادمة بذلك السواد الأعظم الذي يمثل الزواج عندهم واجبا دينيا ومجتمعيا.
"الخبر" خاضت تجربة الاستقراء في عينات التقت بهم من "العزاب الكبار"، وعادت بأجوبة منطقية على لسان أصحابها، ونكتية طريفة في بعض قليل، وأخرى غريبة لا محل لها من الموضوعية ولا التبرير العقلاني.
زكريا ... زاهد من بقايا مدرسة بخلاء الجاحظ ...
في دردشة طريفة قد تؤدي بالسامع إلى الإفراط في الضحك، تم العثور على أحد أحفاد أبطال صاحب رائعة كتاب البخلاء "الجاحظ".. هو الآن في منتصف الثلاثينيات، وأسنانه اختفى بعضها وتساقط، أما شعره فبدأ بالتساقط معلنا لبداية مرحلة الصلع..
يعتقد زكريا أن الزواج لن ينجح، إلا بالارتباط بامرأة عاملة، ولن تقل في المنصب عن "طبيبة أو محامية"، لأن هذا النوع من النساء ـ حسبه ـ لديهن المال الكافي للعيش براحة ودون قلق، وأنه خاض تجارب من قبل، كانت آخرها مع محامية تكبره بنحو سبع سنوات، لكنه فشل في الارتباط بها، بعد أن صارحته أنه "بخيل على غيره وشحيح حتى على نفسه"، ثم أنه يحب أكل الطعام بمكتبها، ويترك الفتات على الأرض، وعاشق لقراءة الجرائد، لكن دون أن يدفع دينارا..
فهو يطلع على الأخبار من الجرائد التي يعرضها جاره ثم يعيدها، وأن ذلك جعلها تنفر منه وترفضه وتطرده..
يضحك ويقول "تعتقد أنني قارون، أملك خزائن من الذهب، أو "ديكابريو" الوسيم، ونسيت وضعها وسنها، وهي قد تجاوزت الأربعين، وأنه كان يمكن أن يكون مشروعا لها، لكن قصر نظرها وذكاءها المحدود، فوت عليها فرصة من معدن نفيس".
ويطلق قهقهة ويواصل "مريضة في عقلها مسكينة، ما تعرفش صوالحها"، ثم يخرج كيسا به قطعة خبز وجبنا، ويستأذن أن يتناول وجبة إفطاره لوحده، دون حساب مضيفه.
"سمير وعلي" تجربة قصتين عاطفيتين وعزوبية محتومة...
سمير معلم بمدرسة ابتدائية، عاشق لكتب الفكر والفلاسفة، يلتهمها أكثر من الطعام، هو يقترب من الخمسين، حيوي وحركي، لا يهدأ ولا يركن يعشق السباحة في البحر شتاء.
اعترف مرة في حديث هادئ أنه خاص تجربة زواج مع من اعتبرها ونعتها بـ "ساحرة قلبه"، لكن ذلك لم يطل ولم يزد ارتباطهما عن العامين، كان سعيدا ومستقرا مع سلطانة قلبه، وينتظر مولودا، إلا أن المرض خطفها وهو على مشارف أن يتحول إلى "أب".
يواصل في كلامه وعيناه تلامس الأرض، ولا يكاد يرفعها حينما يستعيد ذكرياته معها، ويقول أنه منذ أن تركته زوجته، قبل عشر سنوات، وهو يعيش وحدة قاسية، ويحاول أن يتسلى وينسى بالتهام الكتب والتدريس.
وعن فرصة زواج ثانية، وقصة ارتباط جديدة، يقول "سمير"، لم أجد من تعوضها وتكون في مقام زوجته الراحلة فكرا وقلبا، وهو يعتقد في العزوبية اليوم كمسار وخيار فلسفي. ولديه مسؤولية تجاه والدته الحزينة لوضعه، هي تكفيه وتعوضه الحنان والفراغ، ويعتقد أنه سيظل وفيا لذكرى زوجته الراحلة، وسيعيش على تلك الصور والأوقات، وسوار اشترته له هدية ذات يوم، لا يفارقه أو ينزعه من معصم يده إطلاقا، يخفف عنه وحشته.
قصة "علي" هي الأخرى عاطفية، يقول وهو ينقل مشاعره، أنه تعرف إلى فتاة مطلع الألفية الثانية، وخطبها رسميا من أهلها، وعاش أياما سعيدة، وحددا تاريخ العرس وباشرا في الترتيبات والتجهيز ليوم الفرح والسعد، لكن البحر الأبيض المتوسط غدر به، وخطف منه عروسه في فيضانات باب الوادي العام 2001 .
سمع من شهود وأهلها أن أمواج البحر ومياه الأمطار المجنونة حملتها وكأنها قشة، كانت ترتفع فوق الماء أحيانا وتغوص كثيرا، إلى أن اختفت ولم يجدوا لها جسدا ولا أثرا، وأنه منذ ذلك التاريخ وهو حزين يخفي ألمه، ولا ينتشي أو يستلذ بطعم الحياة أبدا.
وعن تجربة جديدة، يقطع الطرح والحديث، ويقول "راحت من سكنت قلبي وليس لغيرها مكان".. ويتوقف ويمعن التفكير والصمت الطويل.
جميلات عازبات، رفضن الارتباط لدواعي الأناقة والقد والطمع ...
يبدو أن فكرة العيش حياة العزوبية لا تعني أو تقتصر على أبناء آدم فقط من الذكران، بل تعني حتى بنات حواء.
وتقول في هذا الشأن "كريمة" في الثالثة والأربعين، أن العديد من الخطاب تقدموا لها رسميا، وطلبوا يدها من أهلها، لكنها كانت ترفض، وتتحجج أنها لم تجد من هو في مقامها، وتتوافق معه .. لكن الحقيقية ـ تقول ـ غير ذلك.
فهي في قرارة نفسها "ترى أنها سيدة الحسن والجمال"، ومن الخطأ أن هذا الجسم الجميل الذي تسكنه روحها، أن يتزوج ويحمل مولودا، وتقوم بواجبات الأم ومسؤولياتها، وتخسر كل هذا "الزين والقد"، وتصبح لديها "كرش" ويزيد وزنها وتترهل، وتعلوها التجاعيد.
ثم هي لا تحتاج لمن ينفق عليها، أو ينقلها ويتفسح بها، فلديها كل ما يلزمها، وجنت كل ذلك بعرق جبينها، وهي سعيدة ولا تريد لا "رجلا" ينتقدها أو يأمرها و"يتمرجل" ويستقوى عليها، فهي أنثى جميلة بعقلية "لي زوم"، ولا حاجة لها بـ "ابن آدم".
أما "نبيلة" صاحبة السبع والثلاثين ربيعا، والأكاديمية الباحثة، فقد وضعت "دستورا" بدا قاسيا، في اختيار الشريك المناسب لها، وأن المواد التي تضمنها دستور زواجها، أن يكون فارس أحلامها "أقوى منها في شخصيته، ويحمل فكرا أوسع من فكرها، وأن يتحمل مسؤولية الزوج وأن لا يكون اتكاليا، ويعتمد على راتبها ومداخيلها"، ويشاطرها أمور البيت ولا يتأفف.
ومن شروطها أيضا أنها لا تريد أن يكون لديهما أطفال، لأنها أيضا تخشى على "حسنها وبهائها"، وأن يتقبل خرجاتها إلى أعالي البحر من دون أن يرافقها أو ينكد عليها سفريتها.
فهي "امرأة متحررة"، ولا تطيق حياة السيد والخادمة، لأنها ترى في الزواج علاقة اجتماعية لا تختلف عن حياة العبد بسيده، يقيدها ويمنعها من ملذات كثيرة ومجال واسع من الحرية. ولمن قبل بشروطها فهو مرحب به، وإلا فهي في غنى عنه وعن ألف من أمثاله.
يبدو في مثال "الجميلات العازبات، أنهن نسين أن تجارب وقصص واقعية لنجوم من المشاهير، تخالف وتعارض طرحهن. فقد أعربت بعضهن عن ندمهن أنهن فضلن حياة العزوبية والتمتع بجمالهن وشبابهن، ولكن حينما مر الوقت وبلغن سنا متقدمة، وجدن أن تلك الأفكار كانت خدعة، وفرصة تأسيس عائلة وإنجاب أطفال مضت.
والاعتراف التاريخي المشهور للمغنية الراحلة "داليدا" هو خير دليل على ذلك، أين اعترفت بلسانها في تسجيل مصور، وليست هي فقط، أنها اعتقدت في شبابها وزهو العيش، وتناست الوقت حتى وجدت نفسها، كما يقال، قد فوتت أهم محطة بحياتها، الاستقرار وتكوين أسرة، وأن المال وحياة الترف والمتعة التي عاشتها سقطت كلها، وانتهى بها الحال إلى "الانتحار".
وأكدت داليدا أن الجمال لا يدوم والمال ورغد العيش لا يعني، والحياة هي ثنائية كما يقول المفكر العالمي "مالك بن نبي" أن الفرد هو رجل وامرأة"، والخالق الحكيم وضع نواميس وقوانين لبقاء واستمرار العنصر البشري، لا تحدث إلا بالزواج، ودعاة العزوبية هم "الحزب الثالث المرفوع"، كما يقال، حججهم واهية ومبرراتهم كلها سقطت في الماء، والفائز فيهم خاسر، نقطة إلى السطر.