قرأت كتاب ((البجعة السّوداء.. تداعيات الأحداث غير المتوقّعة)) لنسيم نيكولاس طالب، وهو كتاب هام وماتع، ومخالف للمعهود، وقد صاغه مؤلفه صياغة أدبية رائقة، خلط فيها شيئا من سيرته الذاتية وقصصه الشخصية حتى يقرّب المعنى للقارئ، وحتى لا ترهقه صفحات الكتاب التي تجاوزت مع الفهارس الـ 500 صفحة في الترجمة العربية، التي تحتاج إلى إعادة تدقيق وضبط وصياغة.
وهو بعد ذلك يتناول موضوعا غير معهود أيضا، فهو يسبح ضد تيار علماء الإستراتيجية، والنظرة المستقبلية، ومحللي مسارات الأحداث من خبراء ومستشارين ودهاقنة السياسة، وراسمي الخطط المستقبلية... إلخ، فهو يبحث في أهمية المعلومات التي لا نعرفها، والتي لم نطلع عليها، والتي لم نهتم بها، والتي حسبنا أنها لا قيمة لها ولا تأثير، وكيف أن كل ذلك قد يكون تنبيهات على تغيرات قادمة لا ينتبه لها أحد على الإطلاق إلا بعد وقوعها. ويدقق في فكرة جوهرية مفادها: أن الأحداث لا تسير دائما وفق التوقعات، والخطط و(السيناريوهات) التي يضعها مستشارو الأمن القومي وخبراء المستقبليات على حسب المعطيات الواقعية التي بحوزتهم، وإنما غالبا ما يحدث حدث صغير أو كبير لم يتوقعه أحد، ولم يظن أحد أن تداعياته ستكون كبيرة، وتأثيراته ستكون عميقة، وتغييره سيكون عاصفا، ويقلب مسار التاريخ قلبا، فتسير أحداثه في مسارات جديدة لم تخطر على بال أحد، أو أجمع الخبراء على استحالتها!!، والغريب حقا أن كثيرا من المؤرخين والمحللين والخبراء لا يراعون في دراساتهم وتحليلاتهم وتوقعاتهم هذه الظاهرة أو القانون الإلهي الذي يحكم التاريخ، رغم تكرر هذه الظاهرة، حيث يركن مسار التاريخ باتجاه معين، وفي لمحة بصر وعلى حين غفلة يحدث اللّامتوقع ويبغت الناس، ويُحدث انعطافا شديدا في مساراته، وتتداعى الأحداث إلى أوضاع جديدة لم يتوقعها أحد قبل ذلك.
ولا بأس قبل أن أكمل في الموضوع أن أبيّن سر العنوان ((البجعة السوداء))، فهو يساعد على توضيح الفكرة، وسره أن الكاتب جعل هذا العنوان ((البجعة السوداء)) مصطلحا يعبر به عن الأحداث التي لا نتوقعها، أو المعلومات التي نكون جاهلين بها حين تحليل التاريخ والواقع، وحين بناء خططنا وتصوراتنا المستقبلية، ثم نكتشفها بعد فوات الأوان؛ فنعلم كم كنا سذجا ومغرورين!، وهو استعارها من واقع معرفة الناس بالبجع حيث كانوا يعتقدون اعتقادا جازما بأن كل البجع لونها أبيض يقينا، ولما وصل الغربيون المحتلون إلى أستراليا وجدوا فيها بجعا سودا، فانقلبت معرفتهم رأسا على عقب، وعلموا أن يقينهم بأن كل البجع أبيض ما هو إلا جهل ووهم!، بعدما كانوا يظنون أنهم يحكمون بعلم ويقين!، هذا حال علماء الطبيعة الذين توصف علومهم بأنها دقيقة، فكيف الحال مع الخبراء والمستشارين، الذين يتنبؤون ويتوقعون وربما يتكهنون؟!، وكيف الحال مع عامة الناس؟!.
إن الكاتب نسيم طالب لبناني أمريكي وهو نصراني، ولو كان مسلما لأثبت في كتابه قول الله تعالى: ”وما أوتيتم من العلم إِلا قليلا”، ”ولكن أكثر الناس لا يعلمون”.
إن الغالب في جيراننا من النصارى العرب، خاصة المثقفين منهم، أن يطلعوا على القرآن الكريم، وقد حفظه الكثير منهم كيعقوب صروف اليهودي، وناصيف اليازجي وإبراهيم اليازجي النصرانيان... إلخ، لكنهم متفاوتون في علمهم به، ولا أدري هل المؤلف ممن اطلع على القرآن الكريم أم لا؟ خاصة أنه هاجر إلى أمريكا شابا يافعا، وإلا فلو كان مطلعا عليه بقدر كاف لعلم أن القرآن الحكيم قرر هذه السنة من سنــن الله تعالى صراحة في مواطن عدة، وهو ما نسميه قانون البغتة أو سنة البغتة، قال الله تبارك وتعالى: ”فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} الأنعام:44، {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} الأعراف:95، قال العلامة ابن عاشور رحمه الله: “والبغتة فعلة من البغت وهو الفجأة، أي حصول الشيء على غير ترقب عند من حصل له، وهي تستلزم الخفاء”. فهي أمر الله تعالى وقدره يجيئهم من غير سبق علامة تدلهم على مجيئه ولا شعور به ولا استشعار له، وهكذا فإن العلي القدير مدبر الأمر في السماوات والأرض يبغت عبيده في الأرض بأحداث ووقائع بغتة لم يكونوا على علم بها ولم يشعروا بها حتى وقعت، وهي بعيدة عن التوقع ومستبعدة بحسب معطيات الواقع، فتكون انعطافات شديدة في مسار التاريخ، تنقل البشرية عامة أو جزءا منها من واقع إلى واقع آخر.
وإذا كان صاحب الكتاب قد استعار من الطبيعة عنونة مؤلفه، فإن الله العلي الحكيم منزل الكتاب الحق قد أكد هذه السنة من سننه بظاهرة في الطبيعة التي خلقها، فقال سبحانه: ”إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون” يونس:24.
وخير مثال واقعي يؤكّد هذه السنة الإلهية طوفان الأقصى المبارك، فقد جاء بغتة، فعصف بخطط دول الاستكبار العالمي ودول التخاذل العربي جملة، إذ أن الولايات المتحدة انخدعت بزخرف خططها الإستراتيجية وزينة سياستها الاستكبارية، فظنت أنها قادرة على العالم عموما و(الشرق الأوسط) خصوصا، وأنها ضمنت استقرار المنطقة، وأمن ولايتها الـ51 (= الكيان الصهيوني) على الأقل لعقدين أو أكثر من الزمن، وأن الترتيبات مع الدول العربية الخائنة في المنطقة ومشاريع الهرولة للتطبيع ستمنحها فرصة هدوء طويلة؛ لتمرر مخططاتها الاستعمارية في راحة وأريحية، وتزداد نفوذا وتحكما في المنطقة؛ لتفجأ بانفجار طوفان الأقصى الذي لم يخطر على بال أحد من شياطينهم وأبالستهم، فقد ظنوا أن غزة تموت سريريا شيئا فشيئا، وأن حماس والمقاومة لا يحلمون حتى في المنام بمهاجمة الكيان الصهيوني، بَلْهَ أن يخترقوا حدوده ويأسروا جنوده وضباطه في ضوء الصباح!، ولكنه حدث، وحدث بغتة وهم لا يشعرون!.
ومن المضحك حقا أن جيك سوليفان (مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق وخليفة كيسنجر هو وريشتارد هاس في الإستراتيجية) قال في مهرجان الأطلسي قبل طوفان الأقصى بثمانية أيام، وبعد أن استعرض قائمة طويلة من المعطيات الإيجابية بخصوص الشرق الأوسط: “منطقة الشرق الأوسط أصبحت اليوم أكثر هدوءا مما كانت عليه منذ عقدين”، ودعا إدارة مجرم الحرب بايدن إلى الانشغال بمناطق أخرى، فالشرق الأوسط منطقة مضمونة وهادئة، وبعد أسبوع واحد انهمر الطوفان المبارك بغتة؛ لتنتقل المنطقة إلى الفصل الأخير من فصول التحرر، وإعادة الحق لأهله، وإقامة العدل على الظالمين، هذه هي سنة الله تعالى منذ الأزل، يغيّر الأمور بغتة، والمشهد يتكرر، ولكن الإنسان الطاغي مغرور لا ينتبه ولا يعتبر ولا يتعلم، وخاصة الاستعمار الغربي (وما الكيان الصهيوني إلا حلقة من حلقاته القذرة)، فهو كما قال الجنرال الفيتنامي الشهير جياب: “الاستعمار تلميذ غبي لا يفهم إلا بتكرار الدروس”، والحق أنه شديد الغباء لا يفهم حتى بتكرار الدروس!.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة