هذا آخر ما نطق به جزائريون قبل الموت

+ -

أولادي أولادي .. بنتي راها الداخل ... استغفر الله ...  خلوني نريح..  صلوا على النبي ... طهور طهور ... آيات من القرآن ..  كلمات أخيرة قالها ضحايا حوادث مرور في الدقائق الأخيرة قبل الوفاة.

صلوا على النبي

كان رجلا طيبا للغاية لا يسمع احد صوته، يقول الكثيرون أنه أصيب باضطراب عصبي تحت التعذيب في السجن أثناء ثورة التحرير، وبقي متشردا يبيت في العراء إلى غاية عام 2001، عندما توفي كان أحد أشهر المتشردين في مدينة غرداية، عاش إلى غاية ما بعد العقد الثامن من العمر، لكن الله كتب له الشهادة كما يقول من عايشوا أيامه الأخيرة، ففي مساء يوم شتوي سقط الرجل بعد أن صدمته سيارة ، وكانت آخر كلماته صلوا على النبي التي كررها عدة مرات وهو يبتسم للشباب الذين سارعوا لحمله على متن سيارة إلى المستشفى، في الطريق كرر الرجل المسن ورأسه ينزف بالدم الطلب صلوا على النبي، ثم فارق الحياة في مدخل المستشفى، بعد وفاته قام متطوعون بوضع شاهد على قبره يحمل عبارة قبر المجاهد ..... ، وقد سار المئات في جنازته بالرغم من أن هويته الحقيقية غير معروفة تماما باستثناء انه من أبناء ولاية أدرار.    

مرتل القرآن

وصل إلى مصلحة الاستعجالات بمستشفى ابن سينا بأدرار، في شهر جانفي 2011 بائع متجول أصيب في رأسه في حادث دراجة نارية، كانت إصابته خطيرة جدا قد تعرض لنزيف في الدماغ، ودخل في غيبوبة، استمرت 03 أيام، يقول الطبيب مواز عامر الذي تابع حالة الضحية، "لم أشاهد مثل هذا في حياتي كلها، لقد أفاق الشاب مرتين من الغيبوبة، وفي كل مرة أفاق فيها رتل القرآن الكريم بصوت خاشع، لعدة دقائق، لقد كان رجلا من أهل الصلاح والتقوى، لقد رتل القرآن مرتين مع آذان الفجر، وكانت خاتمته سعيدة وأمره إلى الله.

 الرعشة والشخرة ...

إنها تجربة قاسية، أن تسمع  الكلمات الأخيرة، وترى رجال أو نساء أو أطفال في الدقائق الأخيرة من حياتهم ، ما زلت أسمع تلك الكلمات في أذني إلى اليوم  بعد سنوات طويلة، تلك المرأة الريفية تزورني في أحلامي، إنها سيدة في العقد الرابع من العمر، ماتت على ذراعي، وهي تسأل عن ابنها الذي أصيب في حادث مرور، رددت الجملة نفسها عشرات المرات صوتها بدأ في الخفوت إلى أن صمتت إلى الأبد "يا ربي .. فتحي وليدي"، حاولت تذكيرها بالشهادتين، لكن المرأة التي أصيبت في جمجمتها وفي صدرها، اكتفت بقول جملة الله يا رسول الله، وأسلمت الروح، شهادات أخرى يحكيها غازي.ع، ملازم حماية مدنية متقاعد خدم 32 سنة، يقول غازي "في صيف عام 1998، على مستوى الطريق الوطني رقم 01 الرابط بين الأغواط وغرداية، تلقينا بلاغا حول حادث مرور اصطدام بين شاحنتين أحدهما مقطورة، وصلنا فوجدنا عناصر الدرك الوطني يحاولون إخراج الضحايا من الشاحنتين، وبصعوبة شديدة وباستعمال المعدات المتوفرة لدينا تمكنا من إخراج الضحايا، وكان 02 منهم في حالة وفاة بدأنا في إسعاف الضحية الثالث وكان يعاني من نزيفين اثنين في رجله وفي أسفل بطنه، بفعل خبرة العمل، كنا نعرف أن خطورة بعض جروح حوادث المرور تجعل نجاة المصابين من الموت تحتاج لمعجزة، ما لا يمكنني نسيانه أبدا تلك اليد الملطخة بالدم التي أمسكت بيدي، في الدقيقة الأولى بعد إخراجه من الشاحنة المحطمة نظر إلي الرجل في عيني نظرة توسل وأمل، وأمسك بيدي بقوة وأن أحاول ربط جراحه ووقف النزيف الحاد، وهو يكرر عبارة على وجه ربي .. على وجه ربي في تلك الفترة لم تتوفر وحدات الحماية المدنية على أطباء ميدانيين، الإسعافات الأولى هي من مهام عناصر وضباط الحماية المدنية المدربين أو الدرك الوطني، لا يمكنني أبدا نسيان تلك الرعشة الرهيبة، لقد انتقت مثل تيار كهربائي من يد الضحية إلى يدي، لم تكن تلك الرعشة إلا "شخرة الموت" كما يسميها أهل الجنوب، بعد ثواني قليلة سقطت تلك اليد التي أمسكتني بقوة قبل دقائق، وسارعت إلى غلق عيني الضحية، لم أعرف هذا الرجل في حياتي وهذا طبيعي لأن شاحنته كانت تحل ترقيم ولاية تبسة، لكنني أحس إلى اليوم أنه صديق عزيز، وأنا أترحم عليه إلى اليوم، نظراته إلى في تلك الدقائق القليلة جعلته قريبا جدا من قلبي، في الطريق نحو المستشفى بكيت بحرقة شديدة على هذا الرجل.  

الجميع يبكي بحرقة شديدة 

أسوأ تجربة يعيشها الإنسان هي مشاهدة الناس يموتون أمام عينه، مشكلة ضباط وعناصر الدرك الوطني والحماية المدنية والممرضين والأطباء، هي أنهم مجبرون على التعود على مشاهد موت مؤلمة رهيبة، لكن كل هذا يبدوا بسيطا أمام هول موت الأطفال في حوادث المرور، إنها أكثر المشاهد التي تجعل جميع يجهش بالبكاء، في حوادث المرور وبسبب تكرار نفس المشاهد المأساوية تتحول عملية انتشال الجثث إلى عمل روتيني كريه وحزين لكنه واجب مفروض على عناصر الحماية المدنية، لكن الوضع سيتغير تماما.

كان يوم ربيعي من عام 2006 في الطريق الوطني رقم واحد جنوب حاسي الفحل، تم البلاغ عن أسوأ حادث مرور يمكن تصوره، 12 ضحية ماتوا في انقلاب سيارة دفع رباعي من نوع تويوتا نفعية، كانت تحمل عائلتين من المنيعة متجهة إلى حاسي الفحل، فور وصول وحدات التدخل من الدرك والحماية المدنية، دخل عدد من المتدخلين في موجة بكاء هيستري، مشاهد جثث الأطفال الموتى المتناثرة في جانب الطريق كانت رهيبة جدا 7 أطفال ماتوا بطريقة مأساوية، فبسبب السرعة الشديدة للسيارة وعند انحرافها قبل أن تنقلب، طار ركاب صندوق السيارة النفعية الخلفي المكشوف في السماء وارتطموا بالأرض بطريقة مرعبة، ويقول المسعفون أن أغلب الضحايا تعرضوا لكسور قاتلة إما في الرقبة أو في العمود الفقري بسبب الاصطدام العنيف جدا بالأرض، بكاء المسعفين الشديد تواصل لأن أغلبهم كان لديهم أبناء  صغار، يقول كاعد منير أحد المسعفين المتطوعين، "لن أنسى أبدا تلك الطفلة كان سنها لا يزيد عن 4 سنوات ترتدي ملابس بلون أبيض، تلطخت بالدم، أحد ضباط الدرك الوطني صرخ بأعلى صوته وهو يردد والله حرام و الله حرام، وعند وصول سيارات الإسعاف إلى المستشفى شاهدنا أطباء وممرضين يبكون بحرقة أيضا.

ما تنساش  .... 

في الطريق الرابط بين ولايتي البيض وغرداية، وفي محور لبيض سيدي الشيخ بريزينة، الساعة تشير إلى الثالثة زوالا من يوم شتوي من عام 2021 توقفت شاحنة نقل بضائع فجأة نزل السائق بسرعة كبيرة في نهاية منعرج خطير بعد أن شاهدة سيارة من نوع سوزوكي تعرضت حادث مرور وكانت مقلوبة،  اقترب سائق الشاحنة من السيارة، ولأنه دركي متقاعد كانت لديه خبرة كبيرة في التدخل في حوادث المرور، بذل الكثير من الجهد لإخراج السائق الذي لم يكن مصابا بجروح خطيرة، بعض الخدوش والكدمات كان سائق الشاحنة عرف مباشرة أن الضحية يعاني من نزيف داخلي بسبب اصفرار وجهه، الضحية فارق الحياة قبل وصول الدرك الوطني والإسعاف بدقائق قليلة، " ما تنساش ربي يحفظك" كانت آخر كلمة قالها الضحية، لقد كان خائفا من تعرض السيارة للسرقة في هذا المكان المهجور من الصحراء، أخبره بأن السيارة هي كل ما يملك، ويخاف أن تسرق، عند نقله إلى المستشفى، يقول سائق الشاحنة، كانت شفتاه جافتين جدا رغم أن الجو كان شديد البرود، قدمت له بعض الماء فشربه بسرعة، تحدث بصعوبة عن ظروفه وعن أبناءه الثلاثة، وعن السيارة التي اشتراها قبل أشهر قليلة، طلب مني بعض الماء، توجهت إلى الشاحنة قبل أن أتحرك أعاد تذكيري بموضوع السيارة، وأن أطلب شاحنة لنقل السيارة من هذا المكان، وعندما وقفت قال لي ما تنساش ربي يحفظك، كانت آخر كلمة سمعتها منه.    

 أولادي أولادي ...

عدد الجرحى الكبير أرغم المسعفين على انتقاء الإصابات الأخطر لإعطائها الأولوية للنقل بسيارات الإسعاف، فبينما توفرت 05 سيارات إسعاف بلغ عدد الجرحى 17 رجل، طفل وامرأة، 10 منهم حالتهم حرجة جدا، بدأ إسعاف المصابين في عين المكان بعد حادثة انقلاب حافلة مسافرين في الطريق الرابط بين المنيعة وغرداية في عام 2005، يقول أحد المسعفين من الحماية المدنية بولاية غرداية "سيدة كانت تتألم بشدة لكن الآلام لم تمنعها من تكرار الطلب نفسه مرات عدة، حاولت منعي من إسعافها وهي تقول بنتي راها الداخل، سألتها فأجابتني بصوت خافت سروال أزرق، تركت مهمة إسعافها لأحد الزملاء، سارعت للبحث عن طفلة في داخل الحافلة المنقلبة، ولم أجد الطفلة، سألت الزملاء فاخبروني بأن الطفلة بصحة جيدة وهي موجودة مع الدرك الوطني، جلبت الطفلة إلى والدتها، لكن ليتني لم أفعل، ففي غضون أقل من 30 ثانية توفيت السيدة وهي مبتسمة وتشاهد ابنتها حية ترزق، ابتسامة السيدة الأخيرة ما زالت في خيالي، شاب لا يزيد سنه عن 33 سنة، جميل الملامح، خرج من الحافلة المنقلبة بنفسه وساعد شخصين في الخروج، لكنه مات بعد ربع ساعة، كان يعاني من نزيف داخلي ولم ينتبه، آخر كلماته كانت أولادي أولادي".

خلوني نريح

في بداية شهر أوت قبل 15 سنة انقلبت سيارة دفع رباعي كانت تقل عائلة قادمة من ولاية أدرار، زوج  وزوجته وطفلين، خرج الزوج بصعوبة شديدة من السيارة الفخمة V8 التي انقلبت عدة مرات وابتعدت عن الطريق، لم يكن مصابا إلا بخدوش ورضوض غير خطيرة، بينما أصيبت الزوجة والبنتان بجروح خطيرة، وفي عمل بطولي نادر جدا، أخرج الرجل بنتيه وزوجته بصعوبة شديدة من السيارة، وحملهم مع سيارة ثانية توقفت للمساعدة في فجر هذا اليوم الصيفي، وصل الجميع إلى مستشفى المنيعة بعد ساعة تقريبا، وعلى الفور بدأ الطاقم الطبي في علاج المصابين، وجلس الزوج على الأرض، لاحظ الطبيب المناوب أن الرجل يعاني من اصفرار شديد في الوجه وانهيار وأدخله إلى الإنعاش، لكن الرجل الذي قام من المقعد بصعوبة قال للطبيب خلوني نريح، وأغمي عليه بعدها مباشرة، وفشل الطاقم الطبي في إنقاذ حياته، وكشف التقرير الطبي أن سبب الوفاة كان نزيف داخلي، وقد نجح الرجل في إنقاذ عائلته وكان آخر عمل قام به.