موسم الاصطياف لم يعد كما كان في جيجل

+ -

رغم أن جيجل مازالت تحتل مكانة امتيازية في مخيلة ملايين الجزائريين نظير سلطة الطبيعة التي شدتهم إليها بحبائل سحرية وسرية (الغابات، الجبال والوديان والجزر والحدائق والبحر..)، وباتت وجهة أولى مفضلة للسياحة العائلية، إلا أن الزائر لجيجل خلال موسم الاصطياف لهذا العام، يقف على عزوف لافت للزوار قياسا بمواسم سابقة عرفت تدفقا منقطع النظير. ويقول بعض الزوار، وحتى شرائح من ساكنة الولاية، إن الظروف الاقتصادية مازالت تضغط بثقلها على أحوال الناس وكبحت التحاقهم بالشواطئ في غمرة ارتفاع الأسعار، فيما يشير البعض الآخر إلى عامل التحاق المصطافين بولايات سكيكدة وعنابة والقالة ومستغانم وتيموشنت، في ظل ربط هذه الولايات بالطريق السيار شرق غرب.

رغم أسوار العزلة المضروبة عليها إلى غاية اليوم، في ظل المسلك الوعر من الجهة الغربية، الرابط بين جيجل وبجاية والمعرض في كل مرة لانهيارات، والصعوبة ذاتها من الجهة الجنوبية، حيث لا تزال الأنظار مشدودة بقوة إلى مشروع الطريق السيار جنجن - العلمة الذي انطلق في 2013 ولم تتجاوز به الأشغال اليوم 36 بالمائة، وهو الذي تعلق عليه آمال كسر أسوار العزلة وربط الولاية بعمق إفريقيا، إلا أن جيجل لازالت تمارس تأثيرها الدري والسري على جميع الجزائريين ويحلمون بالاستمتاع بالجغرافيا التي تملأ عليهم الآفاق كالوسواس، الداخلون إلى الحلم ليسوا كالخارجين منه.

 

سحر الطبيعة

 

فعلى أرض جيجل، تتقاطع الجبال مع الغابات والوديان لتكتمل مع لوحة البحر التي تقدم نفسها في شكل شواطئ وجزر تشد الزائر إليها بحبائل سرية سحرية، إنه جمال محفل الطبيعة الذي يعذب الإنسان، وعلى هذا النحو تقدم جيجل نفسها للزوار على مدى فصول طول السنة على أنها أرض السياحة المناخية (غابات بوعفرون، أم الحناش، المشاكي ببلدية سلمى والحظيرة الوطنية لتازة)، والبيئية والاستكشافية، بل هي أيضا أرض لمسالك التجوال السياحي بأعالي القمم الجبلية، بينها المسلك التاريخي الجبلي ببلدية الشحنة، مقر القيادة التاريخية ومقر لقاء القادة الستة (6)، وصولا إلى المجال البحري، المتمثل في جزيرة الأحلام بالعوانة.

ويشير مهتمون ببعض المسالك السياحية، إلى أن هذا التنوع الطبيعي يتيح للزوار أكثر من فرصة وخيار للالتقاء مع الطبيعة مدة أطول بما ينعكس على راحته وطمأنينته، وتكتمل هذه الطمأنينة مع طبيعة الإنسان في جيجل، المسالم والمضياف، بل إن جيجل وعلى الرغم من العزلة التي تعيشها وانعكست سلبا على مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، إلا أنها نجحت في تسويق نفسها على أنها أبرز الولايات التي لا تزال تحافظ على ما تبقى مما يسمى (الحياء والحشمة) والأمن والأمان، بتعبير بعض الزوار، قياسا بباقي الولايات الأخرى.

ويكشف استبيان أجرته وزارة الداخلية والجماعات المحلية بشأن موسم الاصطياف لسنة 2019، أن ولاية جيجل احتلت المرتبة الأولى بنسبة 21، 34 بالمائة من النقاط، تليها ولاية الجزائر وبجاية، ثم مستغانم فوهران؛ بل وشهدت الولاية خلال موسمي الاصطياف (2022 - 2023)، تدفقا منقطع النظير للمصطافين ممن قدموا حتى من البلدان المجاورة، كليبيا، وتونس، ومالي وولايات أقصى جنوب البلاد.

ويرى بعض المشتغلين في سوق الإيجار بجيجل، أن هذا التدفق اللافت للمصطافين من كافة الولايات، تسبب أيضا في ارتفاع أسعار كراء المنازل، بزيادة الطلب على الإيجار، وتجاوز سعر كراء منزل متواضع من غرفتين الـ10 آلاف دينار لليلة، بعد أن وجد السماسرة ضالتهم، وما وقفنا عليه في عديد المرات أن كثير من المصطافين المنحدرين من ولايات سطيف، والمسيلة، وقسنطينة... وغالبيتهم من الشباب، كانوا يفترشون الأرصفة ليلا وهم على ثقة تامة بالأمن والأمان.

 

تراجع لافت..

 

لكن وإلى أواخر شهر جويلية من موسم 2024، أينما حللت في جيجل، يؤكدون لك "وجود عزوف لافت للمصطافين على خلاف السنوات الماضية"، يقول نبيل، صاحب مطعم: "هذا العام لم نستقبل فيه زبائن كما استقبلنا خلال عام 2023.. بل وبإمكانك أن تلاحظ ذلك في حركة المرور بالمدينة وفي الأسواق..".

وفيما يشير إلى أن غلاء الأسعار (ارتفاع نسبي) يكون قد ساهم في كبح إرادة الناس في الالتحاق بهذه الولاية هذا العام، في ظل ارتفاع أسعار بعض المواد كالبطاطا التي لا يقل سعرها عن 100 دج، والسردين المتراوح سعره بين 800 إلى 1200 دج، يشير عبد الله القادم من ولاية المسيلة، إلى أن السبب يعود أيضا إلى الأسعار المعتمدة في كراء المنازل المتراوحة بين 3500 دج و9000 دج، في وقت بالغ بعض من أبناء الولاية في تصرفاتهم التجارية المشينة التي وصلت حتى بيع قارورة ماء بـ700 دج.. والتحايل على الناس في أسعار حظائر السيارات، في مؤشر واضح إلى المساهمة في نفور الزوار ممن يروها ولاية تحتضن رحمة السياحة العائلية.

 

ظروف اقتصادية ضاغطة

 

بل ويقول مصطافون قدموا من ولايات عدة، إن الظروف الاقتصادية مازالت تضغط بثقلها على الناس وتكبح التحاقهم بالشواطئ من عام لآخر، في مؤشر واضح إلى أن الحزام يضيق عليهم "هذا المواطن يشرف على أن يتحول إلى عبوة ناسفة مع حلول كل مناسبة، ما أن ينتهي عيد الأضحى، يأتي موسم الاصطياف، ثم الدخول المدرسي، إنه في مواجهة دائمة مع حلقة من الضغوطات.."، يقول نسيم. يحدث ذلك في وقت يفقد فيه الدينار جزءا من قيمته، كل ثلاثة أشهر أمام باقي العملات الأجنبية الأخرى.

لكن، مقابل هذه العوامل، يقدم بعض الملاحظين للشأن المحلي بجيجل معطيات أخرى، تكون قد ساهمت من جهتها في تغيير موسم الاصطياف لمعسكره بالولاية، ويقولون "إن فتح منافذ للطريق السيار على كل من ولايات سكيكدة، وعنابة، والطارف (القالة)، ومستغانم وتيموشنت... الخ، جعل المصطافين يبحثون عن وجهات بديلة لجيجل تكون أسهل وتجريب موسم الاصطياف فيها.."، خصوصا وأن هذا المشروع الحلم من الطريق أنجزته الدولة لتكون له أبعاد اقتصادية، وسياحية واجتماعية، يسهل الحياة للناس ويفتح أمامهم خيارات عدة.

ونتيجة لذلك، فإن الأجواء التي وقفنا عليها خلال موسم الاصطياف، تكون هي الأخرى ساهمت أيضا في تشبع وعزوف الزوار، إذ أن البيئة السياحية لازالت على ما هي عليه منذ ستينيات القرن الماضي، ولا تزال الولاية تبدو ضعيفة ويتيمة من مختلف الإمكانيات والخدمات، وهذا الضعف مازال يسكن مجال تنظيم مناحي الحياة خلال موسم الاصطياف، على نحو يوحي باللامبالاة والاهمال.

 

لا شيء تغير

 

فالمنطق السائد في غالبية الشواطئ، هو الوضع السائد منذ نصف قرن، فالوضع الموروث عن مجانية الشواطئ يتناسل الفوضى، فإذا أخذنا شاطئ الصخر الأسود بالعوانة كعينة، نقول إنه لا توجد خدمات، لا مراحيض ولا حمامات، ماعدا محل أو اثنان أشبه ببيوت الصفيح يبيعان القهوة، ومركزان للحماية المدنية وآخر للدرك الوطني، في وقت يردد فيه البعض أن سطوة عصابات الشواطئ تراجعت بشكل كبير هذا العام.

في شاطئ الصخر الأسود الذي يستقطب إليه كل عام آلاف المصطافين، فتح واحدا من كبريات الفضاءات لركن السيارات على بعد خطوات من البحر، بعد أن حاز عليه أحد أبناء العوانة إثر مزايدة علنية. هذا الفضاء الممتد على عدة هكتارات، لا يتوفر ولو على مرحاض أو حمام أو مطعم، لا شيء على الإطلاق. ويطرح مثل هذا الوضع تساؤلات بشأن ماذا أنجز من استثمارات في قطاع السياحة منذ عقود في جيجل؟ ولماذا قطار الاستثمار متوقف بجيجل على خلاف الولايات المجاورة كبجاية وسكيكدة وغيرها؟ إذ كان يفترض تسويق الولاية كمنتوج سياحي يقدم قيمة مضافة للولاية.

 

"لابد من إستراتيجية وطنية"

 

وكان مدير السياحة والصناعات التقليدية لولاية جيجل، زبير بوكعباش، صرح لـ "الخبر" في وقت سابق قائلا "النهوض بقطاع السياحة بولاية جيجل يجب أن يستند إلى تصور وتفكير يتجاوز التفكير والتصور المحلي.."، في مؤشر واضح إلى أن الملف يندرج ضمن إستراتيجية وطنية للترويج للسياحة الداخلية.

فيما يرى بعض الغيورين على الولاية أنه "كان يفترض اختيار مسئولين أكفاء يتوافقون مع خصوصيتها الجغرافية، ففي ظرف أقل من عشرية لقيت مواقع سياحية بزيامة منصورية والعوانة مصيرا يطرح أكثر من تساؤل، عما إذا كان القائمون على قطاع السياحة لهم حس سياحي بالنظر للخراب والأوساخ التي طالتها؟

 

مجانية الشواطئ هي الفوضى

 

وظل مدير السياحة زبير بوكعباش يدافع عن المقاربة التي تخرج قطاع السياحة من الفوضى الناجمة عن المنطق الاجتماعي المعمول به في الشواطئ، لذلك "يجب الإسراع في تجسيد مبدأ العمل بعقود الامتياز في استغلال الشواطئ، أي المرور إلى الاستثمار الخاص الهادف إلى تحسين الخدمات وإعطاء صورة جمالية للشواطئ وتأمين الحياة السياحية والقضاء على الممارسات الطفيلية..".

 

غياب الوعي والمسؤولية

 

ومع ذلك، فإن ساكنة ولاية جيجل، ولاسيما المدينة، يتحملون جزءا من المسؤولية إزاء ما يجري. ففيما كان يفترض أن تتحلى الساكنة بالوعي الجمعي (الجمعيات) للدفاع عن الخصوصية السياحية لولايتهم، بالنظر لمشاهد الانحطاط الماثلة في الأوساخ وتخريب عدة مواقع واستباحتها لاحتضان ما يتنافى مع جمالها، ظلت الجمعيات هذه نائمة بعد أن غاب عنها فعل المواطنة والوعي المدني، وأصبحت تدور في فلك البحث عن امتيازات والمبايعات المصلحية لخدمة مصالحها الشخصية، فيما تواصل اللجنة الولائية لتنظيم موسم الاصطياف إنتاج الخطاب الشعبوي لمجانية الشواطئ بدل أن تسهر على تنظيمها ونظافتها.

وتستقبل جيجل نحو 10 ملايين مصطاف كل عام، في وقت لا تتجاوز هياكل الاستقبال 250 سرير موزعة على نحو 35 مؤسسة فندقية، بمعنى أن هذا التدفق الهائل يذهب كله إلى الإقامة لدى الساكنة بكراء بيوتها، لكن هذا الوضع يطرح مرة أخرى تساؤلات عن مناطق التوسع السياحي: أين هي ولماذا ظلت جيجل على نفس الصورة والوضع منذ أزيد من نصف قرن؟