+ -

لم تكن قرية بيبان مصباح، التابعة لبلدية عين بوشقيف، بولاية تيارت، معروفة كثيرا، قبل أن تصبح محجا للعديد من المواطنين ومختلف ممثلي وسائل الإعلام المحلية والدولية، عقب تألق الملاكمة إيمان خليف في أولمبياد باريس الجارية حاليا، وما خلفته الحملة المسعورة ضدها من تضامن داخلي وخارجي مع قضيتها، وسيرها بخطى ثابتة وعزيمة قوية نحو التتويج بالميدالية الذهبية في وزن 66 كلغ، عقب تأهلها إلى المنازلة النهائية، لتكون ثاني ميدالية من المعدن النفيس للجزائر، بعد ميدالية كيليا نمور الفائزة بذهبية الجمباز.

على بعد نحو 8 كيلومترات جنوبي مدينة تيارت، ثمة قرية بيبان مصباح التي تقع على الطريق الوطني رقم 23، أسفل جبل الناظور المطل على مدينتي السوقر وعاصمة الولاية، التي لم يكن يعرفها الناس كثيرا، رغم أنها أول قرية اشتراكية شيدت بتراب ولاية تيارت في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، في بداية سبعينيات القرن الماضي.

وصورت بها معظم مشاهد الفيلم الشهير"رحلة شويطر" سنة 1976، الذي يؤدي الممثل القدير الفقيد حسن الحسني المعروف بـ"بوبقرة" الدور الرئيسي فيه، إلى جانب الممثل حمزة فغولي المعروف بـ "ما مسعودة" ابن مدينة تيارت وأخرجه حاج رحيم، تدور وقائعه حول نزوح عائلة "شويطر" من الريف إلى المدينة بحثا عن العمل دون أن يتحقق حلم تحسن ظروفها المعيشية، قبل أن تتراجع العائلة القروية وتعود إلى البادية، لتجد كل شيء تغير، وقد هُدم بيتهم المتواضع، فيما الجيران في سعادة كبيرة، بعد أن استفادوا من سكنات جديدة بالقرية الاشتراكية.

ويرتبط اسم القرية بأحد أكبر شعراء البدوي، وهو الفقيد الشيخ محمد بوطيبة الملقب بـ "بن طيبة" صاحب رائعة "شوف يا أحمد" الذي تقع مزرعته على مرمى حجر من القرية، لا تزال تحتضنأحفادهوكثيرا من جوانب حياة الشاعر الكبير.

وجاءت قصة الملاكمة إيمان خليف، لتعرّف بقرية بيبان مصباح، وهي التي احتضنت عائلة فقيرة من بين أفرادها فتاة متميزة عن أقرانها بمداعبتها كرة القدم منذ صغرها مع أولاد الجيران، قبل أن تتأثر بمجموعة منهم كانوا التحقوا بناد للملاكمة بمدينة تيارت، من بينهم الملاكم عبد القادر بن عيسى الذي صار بطلا للعرب، وهو في سن الـ 16 سنة، قبل أن يهاجر إلى فرنسا، فاقتحمت الفتاة الصغيرة إيمان رياضة كانت حكرا على الرجال واستطاعت بإرادتها الفولاذية أن تدخل عالم النجومية من بابه الواسع، مقدمة درسا في التحدي والكفاح للشباب لتحدي الصعاب.

بداية الملاكمة في الفن النبيل

ويعود أحد المدربين بنا إلى يوم التحاق إيمان بقاعة الملاكمة التي كان يشرف عليها الملاكم عون الحماية المدنية محمد شعوة، الذي منح الصغيرة إيمان 100 دينار قصد أخذ صور شمسية لتكوين ملف انخراطها في جمعية الحماية المدنية، لكنها لم تعد في اليوم الموالي، كونها استغلت ذلك المبلغ لشراء الأدوات المدرسية، لينتقل بعدها شعوة إلى بيت إيمان ويلتقي والدها ليقنعها بالعودة، وليبدأ مشوارها الرياضي محليا.

وكان المدرب شعوة في كل مناسبة تجمعنا به، يلقي اللوم على الصحافة المحلية التي لم تسلط على ملاكميه الأضواء في تلك الفترة، بخلاف فرق كرة القدم التي تلقى تغطية إعلامية كبيرة لشهرتها، ولما برزت الملاكمة خليف وسطع نجمها في سماء الملاكمة العالمية في ظرف وجيز، صارت "تراند" ومادة دسمة للإعلاميين محليا وعالميا ونشطاء شبكات التواصل الاجتماعي.

فبعد إحرازها الميدالية البرونزية في أولمبياد طوكيو، طرقت الملاكمة خليف أبواب العالمية ببلوغها الدور النهائي في بطولة العالم للسيدات باسطنبول في تركيا وإحرازها لأول ميدالية للعرب وإفريقيا في بطولة من هذا النوع، عقب تجاوزها كل الأدوار، بداية بالدور الـ 32، إلى أن اصطدمت في المنازلة النهائية، بالملاكمة الإيرلندية آمي سارة برودهارست بالنقاط في وزن62 كلغ، التي كانت أقصتها من الدور ربع النهائي لأولمبياد طوكيو.

عون الحماية المدنية صاحبة التحية العسكرية

اشتهرت إيمان خليف بالتحية العسكرية عقب كل فوز تحققه على حلبات الملاكمة، في إشارة منها إلى فضل مصالح الحماية المدنية التي احتضنتها منذ صغرها في جمعية تحمل اسم جمعية الحماية المدنية بمدينة تيارت، قبل أن تدمج في سلك الحماية المدنية عقب تألقها وطنيا برتبة عون، لضمان استمرارها في ممارسة الفن النبيل وإسعاد الجماهير الجزائرية.

وكان لها ذلك بفضل المتابعة المستمرة لمدربها محمد شعوة، الذي طالبت إيمان خليف بأن يكون ضمن الطاقم الفني للمنتخب الوطني بعد أولمبياد طوكيو بعد حصولها على المرتبة الخامسة، ليقدم لها الدعم والنصائح، إلى جانب المدرب عبد الغني كنزي والكوبي بيدرو دياز الذي قاد منتخب بلاده في أربع دورات أولمبية متتالية من سنة 1992 إلى 2004، ويشرف حاليا على بطلتنا في دورة باريس، على أمل التتويج معها بالذهبية.

الجماهير الجزائرية ساندت خليف من كل أنحاء العالم

تلقت إيمان دعما غير مسبوق من داخل الوطن وخارجه بمناسبة أولمبياد باريس، وزادت شعبيتها وارتفع عدد متابعيها على مواقع التواصل الاجتماعي، لتتجاوز المليون متابع على منصة انستغرام، إثر الحملة الشرسة التي تعرضت لها بسبب المؤامرة الغربية، في محاولة للتأثيرعلى معنوياتها قبل منازلة ربع النهائي عن طريق التشكيك في جنسها، مستغلين مسرحية انسحاب منافستها الملاكمة الإيطالية بعد 46 ثانية من بداية المنازلة بعد تلقيها للكمات، وهي التي سبق لها وأن حضرت معها بإيطاليا في أكثر من مناسبة.

ثم عقد الاتحاد الدولي للملاكمة للهواة لندوة صحفية، عشية نزال نصف النهائي، في محاولةأخرى بائسة لإخراجها من المنافسة الأولمبية، لولا دعم اللجنة الأولمبية الدولية للملاكمة واللجنة الأولمبية الجزائرية والجماهير التي ساندتها من مشاهير وعامة الناس.

شعارها "العقبات تعلمنا التحديات"

يرى المتتبعون لمسيرة الملاكمة خليف أنه لم يسبق وأن أجهشت بالبكاء عقب أي منازلة أجرتها، منذ بدايتها في جمعية الحماية المدنية قبل نحو 12 سنة، قبل موقعة ربع نهائي أولمبياد باريس، حيث شاهد الجميع الحالة النفسية لإيمان عقب إعلان فوزها على المجرية ونزولها من الحلبة وهي تذرف الدموع.

ويكفي تحليل كلمة "حقروها" التي عبر بها مكتشفها المدرب محمد شعوة، عند نزوله معها من الحلبة، ليؤكد حجم الضغط النفسي الذي عانت منه ابنة قرية عين بيبان مصباح، جرّاء الحملة الشرسة التي تعرضت لها من قبل عدة أطراف خارجية رياضية، سياسية وإعلامية، في محاولة للنيل منها معنويا والتأثير على اللجنة الدولية الأولمبية.

لكن بطلتنا أظهرت للجميع أنها عازمة على تحقيق وعد قطعته قبل هذا الموعد الرياضي الهام لرفع الراية الوطنية وعزف النشيد الوطني في سماء باريس للمرة الثانية تواليا، بإحراز الميدالية الذهبية الأولى من نوعها في الملاكمة النسوية العربية والإفريقية والجزائرية في الأولمبياد، لتضع حدا لكل المشككين.

وتؤكد أنها مثال يقتدى به في الرياضة النسوية الجزائرية، وهي التي تنحدر من ولاية لها شرف ميلاد أول فريق نسوي في كرة القدم بالجزائر، وكان ذلك بمناسبة عيد المرأة في 8 مارس من سنة 1976، تشكلت نواته الأولى من طالبات ثانوية ابن رستم العتيقة الواقعة قبالة ملعب الشهيد آيت عبد الرحيم بأعالي مدينة تيارت، تحت قيادة المدرب عبد القادر بوبكر، وهذا برهان آخر على أن الرياضة النسوية في الجزائر لها جذور وليس وليدة اليوم فقط.

الجزائر زاهية اليوم

تعيش كل ولايات الوطن الأفراح عقب كل منازلة تجريها الملاكمة إيمان خليف، صانعة الحدث، حتى عند الناس الذين لا يهتمون بالرياضات في جميع بلديات الوطن، أين فتحت المقاهي أبوابها لاستقبال المتفرجين، وبتيارت عاش البيت العائلي للملاكمة ومعظم أحياء بلدياتتيارت أجواء غير مسبوقة كسرت روتين القرية، عقب تأهلها لنهائي أولمبياد باريس في وزن 66 كلغ، وخرج الشباب بحي التفاح، مكان تواجد بيت عمة الملاكمة الذي تربت فيه البطلة إيمان الذي تحول إلى شبه قاعة عرض، إلى الشارع مباشرة بعد نزالها مع التايلاندية.

وعاشت قرية بيبان مصباح ببلدية عين بوشقيف "8 كلم جنوبي تيارت" موجة فرح عارمة انطلقت من البيت العائلي للملاكمة إيمان التي شرفت الراية الوطنية بتأهلها إلى النزال النهائي في دورة باريس للألعاب الأولمبية، ضامنة بذلك الميدالية الفضية، ونصبت مديرية الشباب والرياضة شاشة بحديقة تقع بمحاذاة المسبح الأولمبي بحي فريقو تجمع حولها عدد كبير من الشباب والعائلات لمتابعة نزال نصف النهائي الأول، الذي نشطته ابنة تيارت والجزائر.

طموح ذهبية باريس بدأ من طوكيو

بدأ المدرب محمد شعوة والملاكمة خليف في استهداف ميدالية ذهبية برسم أولمبياد باريس، منذ نهاية الألعاب الأولمبية بطوكيو 2022، إذ كشف لنا شعوة في اتصال به عقب تتويج خليف، أنه بدأ يفكر في الألعاب الأولمبية بباريس 2024، لإحراز الميدالية الذهبية، خاصة وأن إيمان كسبت تجربة من خلال مشاركتها في أولمبياد طوكيو وبطولة العالم، والدورات الدولية في عديد البلدان منها الولايات المتحدة الأمريكية قبيل موعد باريس.

وأكدت الملاكمة إيمان خليف في لقاء سابق، على بذل كل ما فيها وسعها لإحراز الميدالية الذهبية في أولمبياد باريس 2024، وهي التي ضمنت الفضية حتى الآن قبل النزال النهائي المرتقب الجمعة القادم 9 أوت أمام بطلة العالم الصينية يانغ لو.