ألا يُجعل التبرع ذريعة إلى إضاعة مال الغير

+ -

 ألا يُجعل التبرع ذريعة إلى إضاعة مال الغير من حق وارث أو دائن، وقد كانت الوصايا في الجاهلية قائمة مقام المواريث، وكانوا يميلون بها إلى حرمان قراباتهم وإعطائها كبراء القوم، لحب المحمدة والسمعة. قال القاضي إسماعيل بن إسحاق: “لم يكن أهل الجاهلية يعطون الزوجة مثل ما نعطيها ولا يعطون البنات ما نعطيهن، وربما لم تكن لهن مواريث معلومة يعملون عليها”.

فلما أمر الله بالوصية للوالدين والأقربين ثم شرع المواريث، كان خيال الوصية الجاهلية لم يزل يتردد في نفوسهم. فمن أجل ذلك، قصرت الوصية على غير الوارث، وجعلت في خاصة ثلث المال، كما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: “الثلث والثلث كثير. إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس”.

وقد مضى آنفا قول أبي بكر لعائشة: “وإنما هو الآن مالُ وارث”. فعلمنا أن كثيرا من الناس يجعلون الوصية والتبرع وسيلة إلى تغيير المواريث أو رزية لمال داين، ظنا أن ذلك يحللهم من إثمها لأنهم غيروا معروفا بمعروف، فكان من سد هذه الذريعة لزوم كون صورة التبرع بعيدة عن هذا القصد. ولم يقع الاكتفاء بالإشهاد في دفع هذه التهمة لظهور أنه غير مقنع، لكثرة احتمال أن يتواطأ المتبرِّع والمتبرَّع عليه على الإشهاد مع إبقاء الشيء المعطى في تصرف المتبرع لحرمان الوارث والدائن. ومن هنا أيضا، يعلم أن المروي عن مالك وهو بطلان الحبس المجعول فيه التحبيس على البنين دون البنات لأنه من فعل الجاهلية، هو أرجح من حيث الأدلة، وإن كان المعمول به بين علماء المالكية مضيه بكراهة أو حرمة أخذا برواية المغيرة عن مالك.

وقد أشار إلى هذا ابن رشد الجد في كتابه “المقدمات”، حيث قال: كره إخراج البنات من الحبس لأنه من أفعال الجاهلية. قال الله عز وجل: {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} الأنعام:١٣٩، ولما فيه أيضا مما نهى عنه من تفضيل بعض الولد على بعض في العطية. ومن مذهب مالك أنهن يدخلن فيه، وإن نص المحبِّس على إخراجهن منه ما لم يفت الأمر.

ومما يندرج في هذا المعنى مسألة المريض مرض الموت، فإن الشارع قد منعه من التبرع بما زاد عن الثلث من ماله، وكل بيع فيه محاباة تزيد على الثلث، وكذلك ما كان من البيع لوارثه، وذلك لتعلق حق الورثة بماله، لأن في تمكينه من تلك التصرفات إبطال لحق الورثة وإضاعة له. ولم يمنع من المعاوضة بالبيع ونحوه إذا كان لغير وارث؛ لأن في البيع أخذ عوض بخلاف التبرع، فالتهمة في تبرع المريض قائمة.

واعتمادا على مقصد الشريعة في صيانة مسالك التبرعات من أن تكون وسيلة لإضاعة أموال الناس وحقوقهم، فرع الفقهاء تفاريع فقهية كثيرة، منها مسألة ما يمضي من تصرفات المديان وما لا يمضي، فمذهب مالك وجميع الرواة من أصحابه أن المديان الذي لا وفاء عنده بما عليه من الدين لا تصح هبته ولا كل فعله من باب المعروف، ولا إقراره بالدين لما يتهم عليه من صديق ملاطف أو ما يشبهه، سواء حجر عليه الحاكم أم لم يحجر عليه، أما إقراره لمن لا يتهم عليه نافذ جائز، لأن البيع والشراء له مباح، وإلى هذا ذهب ابن تيمية، وذهب الأئمة الثلاثة إلى صحة تصرفه في ماله قبل الحجر بأنواع التصرف.

ويرى ابن القيم أن قول مالك هو الصحيح ولا يليق بأصول المذهب الحنبلي غيره، بل هو مقتضى أصول الشريعة وقواعدها، معللا ذلك بقوله: (... لأن حق الغرماء قد تعلق بماله ولهذا يحجر عليه الحاكم، ولولا تعلق حق الغرماء بماله، لم يسع الحاكم الحجر عليه فصار كالمريض مرض الموت، لما تعلق حق الورثة بماله منعه الشارع من التبرع بما زاد على الثلث، فإن في تمكينه من التبرع بماله إبطال لحق الورثة منه، وفي تمكين هذا المديان من التبرع إبطال لحقوق الغرماء، والشريعة لا تأتي بمثل هذا، ولا ريب أن هذا التبرع إتلاف لها، فكيف ينفذ تبرع دعا رسول الله على فاعله، وتبويب البخاري وترجمته واستدلاله يدل على اختياره مذهب مالك، فإنه قال: (باب: من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام).

وبناء على ما سبق، فإن حق التصرف في المال خاص بمالكه، وهو من أنفس الحقوق إلا أن مالكه إذا ما تعدى في إنفاقه، ولو في سبل الخيرات متعسفا في استعمال حقه فيه، قاصدا منع من لهم حق فيه من الوصول إلى حقوقهم، انتزع منه ذلك الحق ليصير حقا لله تعالى.

رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر