38serv
إن من أعظم التبرعات في المواساة قدرا وأكثرها في الناس أثرا الأحباس (الوقوف)، لدوام نفعها وعمومه في الخلق، ولم يكن أهل الجاهلية يعرفونه ولكنه عمل استنبطه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لمصالح لا توجد في غيره من الصدقات والتبرعات، لأن الناس قد يصرفون في سبيل الله مالا كثيرا، ثم يفنى وينتهي فيحتاج الذين صرف عليهم ذلك المال إلى مال آخر، ثم يأتي أقوام آخرون من الفقراء والمساكين ويبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون لهم وقف تصرف منافعه على فقرائهم وذوي الحاجة منهم، ويبقى أصله على ملك الواقف، وهو المعنى الذي حمله قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: “إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها”، فتصدق بها عمر رضي الله عنه (أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث... ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول).
ونظرا لأهمية الوقف وخطورته في تلبية مصالح الفقراء من المسلمين، سعت الشريعة إلى الإكثار منه والحث عليه وتسهيل وسائل انعقاده، وحسم كل تصرف يؤدي إلى إفنائه أو تعطيله أو إخراجه عن مقصوده، فقد أجاز الفقهاء الوقف على شيء يقع في المستقبل لينتفع به فقراء المسلمين قبل وقوع ذلك الشيء، قال ابن نجيم: (لا يشترط لصحة الوقف على شيء وجود ذلك الشيء وقته، فلو وقف على أولاد زيد ولا ولد له صح وتصرف الغلة إلى الفقراء إلى أن يوجد له الولد)، وذهب المالكية في المشهور من أقوالهم: إلى عدم جواز بيع الأحباس بحال حتى لا يؤدي ذلك إلى الإخلال بمقصد تكثيرها، وتناقص منافعها عن ضعاف المسلمين، سئل الفقيه أبو عمران موسى العبدوسي رحمه الله عن بيع الأحباس، فأجاب: الذي يتقلده محبكم بما قيل في بيع الأحباس ما هو المشهور من المذهب، أن لا يباع الحبس بحال، سواء كان محبسا أصلا أو اشتري مما يوفر من مال الأحباس، وسواء كان كاملا أو بعضا.
واعتمادا على مقصد التكثير الذي حرصت الشريعة على إقامته في التبرعات والأعمال الخيرية، نقل الونشريسي أن بعض العلماء سئل عمن أراد أن يتصدق تطوعا فلم ترض والدته بذلك، فأجاب: بأنه يمضي على صدقته ولا طاعة لها في ذلك إلا أن تكون محتاجة فحقها أولى، ويرد قولها بالحسنى دون تعنيف، وسئل أبو عبد الله السرقسطي هل يحجر على الشيخ الكبير ماله إذا كثرت هباته ومحاباته، وهو صحيح العقل ثابت الذهن والميز، لكنه ضعيف القوة بحيث يخاف عليه أن يصير مقعدا أو أعمى فيبقى عالة على الناس، أو لا يحجر عليه حتى يختل عقله، وبعض الشيوخ فعل ذلك من أجل عداوة تقع بينهم وبين ورثتهم، فإذا تحقق ذلك منهم، فهل تفسخ هباتهم ومحاباتهم في البيع والتصيير وغير ذلك، فأجاب: لا يحجر إلا على السفيه يبذر ماله، ولا يعده شيئا، ويتلفه في شهواته، أو صغير أو فاقد لعقله، وأما من كثرت عطيته في وجوه البر، وأنفق ماله في وجوه الخير، فليس بسفيه بل هو رشيد مصيب. وبناء على هذا المعنى ورعاية لمقصده، جعل العلماء من يتصف بالإقتار والإمساك عن الإنفاق في وجوه البر والخير مع وجود الزائد عن حاجته من الأموال، أن ذلك قادح في عدالته، قال المواق: (يقول العلماء الشح قادح في العدالة).
إن الشريعة لما أمرت بالمواساة ورغبت فيها، وندبت إلى أعمال البر والصلة ووجهت إليها وطلبت من المسلمين فعل الخيرات طلبا حثيثا، حذرت من ليس بحاجة إلى المواساة من التعرض إليها لئلا يتواكل المسلم ويركن إلى البطالة ويترقب ما في أيدي الناس، ففي الحديث الصحيح: “إن المرء يسأل الناس حتى يلقى الله يوم القيامة وما على وجهه قزحة لحم”، وقال صلّى الله عليه وسلم: “لأن يأخذ أحدكم حبله ويحتطب، خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه”، وجاء في السنة أيضا: “اليد العليا خير من اليد السفلى إلى يوم القيامة”، وقال محمد بن ثور: (كان سفيان الثوري يمر بنا ونحن جلوس في المسجد الحرام فيقول: ما يجلسكم؟ فنقول: فما نصنع؟ فيقول: اطلبوا من فضل الله ولا تكونوا عيالا على المسلمين)، وأثنى الله تعالى على قوم يتعففون عن إظهار فقرهم فقال: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا}، لأن أخذ التبرعات من قبل من لا يستحقها يعود بالإبطال على مقصد تكثيرها، ويجعل إنفاقها غير ذي معنى.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر