+ -

يتذكر المسلمون، مع مطلع كل سنة جديدة، ذكرى الهجرة النبوية التي غيرت مجرى التاريخ وبدلت أحوال العالم، فينبغي للمسلمين أخذ العبرة، واستلهام الدروس، ويجدد فيهم النشاط، ويثير فيهم الحماس، ويزرع فيهم الأمل، ويحثهم على العمل، ينير لهم الطريق، ويدفعهم إلى السير الحثيث إلى الله، ويهون عليهم مشاق الدنيا وأهوال الحياة.

ولعل أول درس هو إدراك قيمة الوقت، فالوقت هو الحياة، واستغلاله في الطاعة طريق النجاة، عام من حياتنا مضى، بحلوه ومره، بخيره وشره، بحسناته وسيئاته، لا ندري أيكون لنا أم علينا؛ لذا، يجب أن نكون من الله على وجل: {الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون}، لهم المغفرة: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير}.

إن انتهاء عام من أعمارنا قرّبنا من لقاء الله خطوة، ولا ندري كم بقِي من أعمارنا، بعض خطوة، أم خطوة، أم خطوات؛ يقول الحسن البصري: إنما أنت أيها الإنسان أيام مجموعة، فإذا ذهب يومك فقد ذهب بعضك... إذا مر يوم من حياتك، فقد وقعت ورقة من شجرتك، وطويت صفحة من صفحاتك، وهوى جدار من بنيانك!. ويقول عمر بن عبد العزيز: الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما، نعم الليل والنهار يعملان فيك، كيف؟! يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويفلان كل حديد!. ويقول الفاروق عمر بن الخطاب: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم”. يقول عليه الصلاة والسلام: “اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك”.

تأتي الهجرة لتُعلِي قيمة التضحية في زمن الخنوع والخضوع لغير الله، في زمن المعاصي والذنوب إلا ما رحم ربي، في زمنِ المصالح الشخصية، والحياة الوردية، كانتِ التضحية بالوطن، ولو كان مسقط الرأس، ومرتع الصّبا، ومجمع الذكرى: “والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أُخرجت منك، ما خرجت”.

ويوم أن بات علي رضي الله عنه في فراشه صلّى الله عليه وسلم وغطى رأسه، كان يعلم أن سيوف الحاقدين تتبادر إلى ضرب صاحب الفراش، ويوم أن قام آل أبي بكر عبد الله وأسماء وعائشة ومولاه عامر بهذه الأدوار البطولية، كانوا يعلمون أن مجرد اكتشافهم قد يودي بحياتهم، كلها دروس في البذل والتضحية؛ حيث ترك الصحابة أغلى ما يملكون، وأعز ذكرياتهم ليهاجروا إلى مكان جديد لا علم لهم به، ولا فكرة مسبقة عنه. والجانب الثاني من الدرس المهاجر إليهم الذين تقاسموا معهم ما يملكون، وفي هذا قال الله تعالى: {والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتوا ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.

فالمعنى الحقيقي للهِجرة؛ إذا كانت الهجرة في وقت من الأوقات تعني النُّقلة المكانية من أرض الشرك إلى أرضِ الإسلام، من مكة إلى المدينة، فقد ألغاها النبي صلّى الله عليه وسلم حينما قال: “لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية”، ألغاها بالمعنى الجغرافي، لكنه أبقاها بالمعنى المعنوي، حيث قال: “والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”.

والمطلوب من كل منا أن يهاجر، يهاجر من المعصية إلى الطاعة، من الكسل إلى العمل، من القنوط إلى الأمل، من الضعف إلى القوة، ومن الأسفل إلى القمة، من الذلة إلى العزة، ومن الانكسارِ إلى الانتصار، من الانكفاء على الذات إلى الاهتمام بشأن المسلمين، من مصلحة الفرد إلى مصلحة المجموع، من حياة الهوان والحرمان إلى حياة الإيمان والإحسان.