من أسهل الطرق لمعرفة الحق النظر في خطط الأعداء وما يستهدفونه منا، فهم لا يستهدفون إلا ما فيه مصلحتنا ونفعنا، ولا يشجعوننا إلا على ما فيه ضررنا ومفسدة لنا، وعليه: من أراد أن يعرف مكامن القوة في الأمة الإسلامية فلينظر إلى ما يستهدفه منها الغرب منذ بدء حملته الاستعمارية أواخر القرن الثامن عشر إلى اليوم، سواء ما استهدفه السياسيون أو ما استهدفه المستشرقون.
وسيرى حتى الأعمى أنهم استهدفوا خاصة: ديننا الذي هو عصمة أمرنا ومناط عزتنا. واستهدفوا العربية؛ لأنها وعاء الدين، فزاحموها بالعاميات حتى تكون حاجزا عن التأثر بالقرآن، وقد نجحوا في ذلك نجاحا باهرا منذرا بالخطر، إذ صارت العامية لغة الإعلام ولغة الدعاة ولغة الأساتذة في المدارس والجامعات، والأغرب أن الجميع انخرط في نصرة العامية ونشرها خدمة للاستعمار ولم ينتبهوا لخطورة هذا، ولم ينتبهوا إلى أنهم قد صاروا عملاء للاستعمار يحققون أهدافه وإن لم يشعروا، وإن أنكروا!. واستهدفوا الجهاد تشويها ومحاربة حتى تفقد الأمة آلية دفاعها عن نفسها وذودها عن حياضها. واستهدفوا وحدة الأمة، حتى تتفرق وتتصارع وتتنازع كما هو حالها اليوم، فيسهل قيادها وإذلالها كما هو حاصل، مع أن أغبى الأغبياء يعرف شعار الاستعمار المُعلن:
(فرّق تسُد). ولا أغبى من أغبى الأغبياء إلا من أطاع سيكس - بيكو وعصى رب العالمين، فقد قرر هذان الشقيان (سيكس - بيكو) تقسيم العالم العربي إلى دويلات، فقام كل العرب والمسلمين طائعين لهما يتغنون بوطنياتهم الزائفة التي حدد حدودها الشقيان ودولتاهما الاستعماريتان، وربما حارب بعضُهم بعضا بسبب خربشة الحدود التي افتعلها الشقيان!. وخالفوا أمر رب العالمين سبحانه: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}، وما ذا تنتظر من شعوب ودول عصت الله تعالى وأطاعت سيكس - بيكو؟!.
لقد كان من أهم ما استهدفه الاستعمار في سبيل تفريق الأمة وتشتيتها (الخلافة) نظاما ومصطلحا وروحا، فقد صار مصطلح الخلافة محملا بحمولات سلبية كثيرة في وجدان أكثر المسلمين، وذلك أن الغرب حرص الحرص كله على إسقاط الخلافة بما تعنيه من وحدة المسلمين، ووحدة أمتهم، ووحدة مسارهم ومصيرهم من قلوب المسلمين وعقولهم كما حرص على إسقاطها من واقعه، وقام طابور خامس من أشباه المثقفين المُتعلْمِنين والحداثيين والمستغربين من بني جلدتنا بتبني المشروع الغربي، وأعلنوا الحرب على تاريخ المسلمين وتراثهم، وفي مقدمة ذلك الخلافة بلا شك،
فشوّهوا ما شاءوا أن يشوهوا، وحرّفوا وافتروا ما شاءت لهم أهواؤهم، وصدقتهم شرائح كبيرة من المسلمين ممن ضعُف إيمانه، ورق تدينه، وتوسع جهله بدينه ولغته، وتشرّب ثقافة الغرب وآدابه وقيمه، فماذا كانت النتيجة: ضعف الأمة الإسلامية وبلوغها الحضيض، وذلّها أمام الغرب ذلاًّ لم تعرف البشرية له مثيلا؛ لدرجة أن عجزت أمة الملياري نسمة بدولها الــ 57 عن إدخال لقمة عيش وقنينة ماء لغزة الشهيدة المحاصرة، التي تُباد تحت سمع وبصر الجميع، وتقتلها المجاعة في الوقت الذي تعاني الشعوب العربية والإسلامية التخمة والبدانة!.
والعجيب أنهم يرون ذلك عاديا؛ لأن غزة جزء من دولة أجنبية لها وطنيتها الخاصة وهي فلسطين، بل السلطة الفلسطينية فقط، فما دخل الجزائري أو المصري أو السنغالي أو الأوزبكي أو الخليجي؟؟،وغزة ليست من وطنه، ووطنيته التي حددها الشقيان لا تشملها!.
لقد ولّت فكرة الأمة الواحدة وجاء زمن التحديث والدولة القُطرية، ولقد بادت فكرة الخلافة ونحن في زمن الوطنية المقدسة!.
إن الخلافة ما هي إلا نظام سياسي تاريخي عاشه المسلمون، وبلغوا في ظله عظمة ما بلغتها أمة قبلهم، وهو تجربة بشرية فيها الكثير الكثير من الصواب والإبداع، وفيها الكثير من الخطأ والإخفاق، ولكنها رمز لوحدة المسلمين واجتماع كلمتهم، فكلما توحد المسلمون وجدت الخلافة، وكلما وجدت الخلافة توحد المسلمون، بغض النظر عن شكل هذه الخلافة وتكوينها، ولما كانت رمزا لوحدة المسلمين وآلية لتوحيدهم شن عليها الغرب حملة تشويه شعواء، صدقتها الأمواج المغفلة من المسلمين والعرب، فصارت كلمة الخلافة تثير اشمئزازهم، وشعار أكثر: (أذلة مفرقين تحت نفوذ الغرب، ولا أعزة موحدين تحت نظام الخلافة المرعب)!. وجهلوا أن عزهم ووحدتهم هو في نظام الخلافة، الذي سيرجع قريبا فقد بشّر الصادق المصدوق عليه السلام بعودته وبيّن مسار الأمة في حديث عظيم، قال فيه صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبرية، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج نبوة» رواه أحمد والبزار.
والمقصود بالملك العاض هو نظام الأمويين والعباسيين ومن تلاهم من دول، والملك الجبرية هو الأنظمة الاستبدادية التي جثمت على صدر الأمة بعد الاستقلال بدعم من الدول الاستعمارية طبعا، أما نظام الخلافة فهو نظام العدل والحق والمساواة والوحدة بين المسلمين، أما شكله فالشرع لم يحدده، فقد يكون على شاكلة الاتحاد الأوربي، وقد يكون على شاكلة دول الكومنولث، وقد يكون حكما فدراليا كالولايات المتحدة أو روسيا الفدرالية، وبالمناسبة: لماذا لم يقل أحد أن أمريكا تشكل نظام (خلافة) من خمسين دولة؟، ولماذا لم يقل أحد: إن أوربا تشكل نظام (خلافة) من سبع وعشرين دولة؟، أم يجوز للجميع أن يتجمعوا ويتوحدوا إلا المسلمين حرام عليهم الاجتماع والوحدة؟.
ألا يستفيق المسلمون من غفلتهم، ويقلعوا الغشاوات من على أعينهم، ويكفوا عن تصديق الغرب في ترهاته وشبهاته؟، أما آن للمسلمين أن يبحثوا عن سبيل وحدتهم للوصول للخلافة التي توحد المسلمين، فيعز جانبهم، وتقوى شوكتهم؟، أما آن لنا أن نراجع فكرنا وتفكيرنا والمسلّمات التي فرضت علينا لعقود من الزمن؟، أما آن لنا أن نؤمن بكتاب ربنا وسنة نبينا عليه السلام صدقا وحقا ونهتدي بهديهم؟
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة