38serv
يعاني الجزائريون هذه الأيام كغيرهم من شعوب دول العالم الثالث من مشكلة غلاء الأسعار وضيق ذات اليد، وهي من المشكلات التي قد يكون لها أسبابها الطبيعية والمنطقية، فزيادة سعر المواد الخام وزيادة أسعار تكلفة الأشياء وتصنيعها ونقلها قد يكون سببا منطقيا لارتفاع الأسعار، لكن إذا كان هذا الارتفاع غير منطقي وغير طبيعي فإن له أسبابه غير المنطقية وغير الطبيعية، وبخاصة لما تتدخل بعض الأيادي الخبيثة التي تبغي تسميم الأجواء وخلق المشكلات المجتمعية والسياسية. فما هي أسباب هذه المشكلة وما علاجها؟
يعتقد الناس في الغالب أن أسباب غلاء الأسعار يرجع إلى أسباب دنيوية محضة، لكن الحقيقة أن هناك أسباب أخرى؛ يقول الله عز وجل: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}، يخبر سبحانه وتعالى أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبون ويكون عزيزا عليهم، إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات، وأن ما يعفو اللّه عنه أكثر، فإن الله لا يظلم العباد، ولكن أنفسهم يظلمون، {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة}، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: “ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب، ولما يعفو الله عنه أكثر”.
إن غلاء الأسعار كظاهرة من مظاهر الفساد، لا يظهر عبثا، ولا يقع مصادفة؛ إنما هو تدبير الله وسنته {..ليذيقهم بعض الذي عملوا} من الشر والفساد، وكان لابد -وهذا من رحمة الله بالعباد- أن يحل عليهم جزاء من لم يؤمن بالقرآن ومن لم يعمل بما فيه، تحقيقا لقوله عز وجل: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}، أي: أن جزاءه، بسبب إعراضه عن ذكر ربه وعدم خضوعه له.
إن غلاء الأسعار محنة من المحن، وعقوبة من العقوبات، وبلاء يرسله الله تعالى على الناس، وإن لم يجد الناس حلولا ناجعة أساسية لمثل هذه البلايا والمحن فإنها قد تتفاقم، وتؤدي في النهاية إلى ما لا تحمد عقباه، والتاريخ مليء بصور بشعة من مآلات غلاء الأسعار، وكيف اضطر الناس لأكل الهوام والدواب، كما في تاريخ أمتنا العربية والإسلامية.
وغلاء الأسعار الذي يعاني منه الكثير من بلاد العالم الإسلامي أولا هو ظاهرة عالمية؛ لأن غلاء الأسعار ليس خاصا بالمسلمين وحدهم، وإنما العالم كله يشكو الآن من غلاء الأسعار، وهذا أمر تتبنى مواجهته حتى منظمة الأمم المتحدة؛ لأن هذا الأمر سمة عالمية.
ويتلاوم الناس فيما بينهم على هذا الارتفاع الجنوني، فالتجار يلومون الحكومة بأن الحكومة تفرض الجبايات الباهظة المتعددة المتفننة على السلع المختلفة، هذا لا بد أنه سبب من الأسباب، وجزء من الحقيقة.
والحكومة تلوم التجار من جهة أنهم جشعون، ومنهم من يحتكر السلع من أجل أن يزيد في الربح ويستربح على حساب قوت الناس، وهذا أيضا سبب من الأسباب، وجزء من الحقيقة.
ولعل من أهم الأسباب غياب الرقابة الرسمية، وعدم ملاحظة ما يقع من انحرافات في دنيا التجارات، وحصول الاحتكار الجشع الذي يضرب قلوب الناس، فيكون همّ التاجر أن تزيد ثروته، وأن تزيد أرصدته، ولو على حساب المساكين من الفقراء والمحتاجين، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: “من احتكر فهو خاطئ”.
فالتجار إما أن يكونوا معول هدم يزيد من معاناة الفقراء والمحتاجين، وإما أن يكونوا أداة بناء يسهمون في تخفيف الضراء عن المتضررين، لذلك جاءت الأحاديث تبين علو منزلة التاجر الصادق الأمين، ووعيد أهل الجشع والغش منهم، قال صلّى الله عليه وسلم: “إن التجار يُبعثون يوم القيامة فُجارا، إلا من اتقى الله، وبرَّ وصدق”.
وهنا يأتي دور الدولة ودور القائمين على رعاية شؤون الناس، فالدولة لها مهمتها وعليها مسؤوليات، يجب أن تتدخل الدولة بسياسات واضحة وبقوانين رادعة من أجل أن لا يظلم الناس بعضهم بعضا، يجب على الدولة أن تعود إلى الاقتصاد الإسلامي وما قدمه من حلول، وإلى ما وضعه العلماء في هذا الباب، وإعمال ذلك، واستشارة أهل الخبرة في هذا.
كما يمكن للناس أحيانا أن يحجموا عن بعض السلع إذا وقع فيها ما يقع من الجشع، كما حصل أن جاء الناس بعضهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جاؤوا إليه وقالوا: نشتكي إليك غلاء اللحم، فسعّره لنا؟ فقال عمر رضي الله عنه: “أرخصوه أنتم، أرخصوه أنتم”، وقيل لإبراهيم بن أدهم: إن اللحم غلا، قال: فأرخصوه أي: لا تشتروه.
فمن الخطأ الذي يقع فيه الكثير من الناس أنهم إذا سمعوا عن سلعة زاد سعرها ونقصت من السوق هموا بالإكثار من شرائها وتخزينها ظنا منهم أنها ستنفد فيتسبب ذلك في ارتفاع سعرها، والموقف الصحيح عند ارتفاع ثمن أي سلعة أن يحجم الناس عن شرائها واستبدالها بغيرها إذا كان لها بديل وبذلك لا يُستغل الناس من قبل المحتكرين. يقول رزين الأعرج، غلا الزبيب علينا بمكة، فكتبنا إلى علي بالكوفة، فكتب يقول: أرخصوه بالتمر، أي استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوافرا في الحجاز وأسعاره رخيصة، فيقلّ الطلب على الزبيب فيرخص. وإن لم يرخص فالتمر خير بديل.