+ -

حث الإسلام على الاعتصام والوحدة، فالاجتماع والاتفاق سبيل القوة والنصر، والتفرق والاختلاف طريق الضعف والهزيمة، وما ارتفعت أمة من الأمم وعلت رايتها إلا بالوحدة والتلاحم، والتاريخ أعظم شاهد على ذلك، ومن هنا جاءت نصوص كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم تدعو إلى هذا المبدأ العظيم، وتحذر من الاختلاف والتنازع: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، وفي الصحيح من حديث أبي مسعود الأنصاري: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: “استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم”.

الحج موسم تتجسد فيه وحدة المسلمين في أبهى صورها وأجمل حللها، حيث تذوب الفوارق، وتتلاشى الحواجز، ويجتمع المسلمون في مشهد جليل يبعث على السرور، ويسعد النفوس ويبهج الأرواح، فيجتمع المسلمون من أقطار الأرض حول البيت العتيق، البيت الذي يقصدونه بقلوبهم وأفئدتهم من خلال صلواتهم في بلادهم، ها هم الآن يجتمعون حوله، يتصافحون ويتشاورون، خلعوا تلك الملابس المختلفة المتباينة من على أجسادهم، ووحدوا لباسهم، ليجتمع بياض الثياب مع بياض القلوب، وصفاء الظاهر مع نقاء الباطن، إنها لحظات رائعة وهم يتحركون جميعا من منى، ثم يقفون ذلك الموقف العظيم في عرفة، وقد اتحدوا في المكان والزمان واللباس والوِجهة.

إن مظاهر الوحدة في الحج تتجلى في وحدة الزمان والمكان؛ فالحج له زمان ومكان محدد يؤدى فيه، فلا يجوز أن يكون في غيره: {الحج أشهر معلومات}، ويقول عليه الصلاة والسلام: “الحج عرفة”، وكذا وحدة المناسك، فالجميع مطالب بأداء مناسك الحج، من إحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفة ورمي للجمار، فالكل يقوم بنفس الأعمال، مما يجسد روح الأخوة والمحبة، أضف إلى ذلك وحدة الهدف والغاية والشعور، فالجميع جاؤوا من كل فج عميق، يحدوهم الأمل، ويحفهم الخوف والرجاء، رافعين أكف الضراعة إلى ربهم، راغبين في مغفرته، طامعين في فضله ورضوانه، ومن بين مظاهر الوحدة في الحج وحدة المنهج ومصدر التلقي؛ حيث يتحرك الحجيج في أداء مناسكهم تبعا لمنهج رسمه لهم قائدهم وقدوتهم يوم أن حج بالمسلمين حجة الوداع وحوله ما يزيد عن مائة وعشرين ألفا، فقد وقف عليه الصلاة والسلام ليوضح لهم معالم دينهم، ويعلمهم مناسك حجهم، وأمام هذا الحشد الضخم رسم لهم الخط الأول: “خذوا عني مناسككم”، وبهذه العملية تم إلغاء ما كان من مناسك الوثنية.

إننا ينبغي أن نأخذ من الحج دروسا لا تنسى، نجعلها محل تطبيق في حياتنا ومجتمعاتنا؛ فالقبلة واحدة، والرب واحد، والمشاعر واحدة، واللباس واحد، وكل ذلك يجتمع في هذا الموسم المبارك، تأمل حواليك تلك الأمواج المتلاطمة، ألوف بل ملايين، اختلفت ألوانهم، وتناءت ديارهم، واختلفت ألسنتهم، وتعددت لغاتهم، عرب وعجم، هنود وزنوج، سود وبيض، حمر وصفر، رجال ونساء، صغار وكبار، جمعهم شيء واحد هو رضا الله، ثم انظر إلى ذاك المشهد الرائع في بطحاء عرفة، وخذ لمحة ذات اليمين وأخرى ذات الشمال، أرجع البصر كرتين، هل ترى إلا ثيابا بيضا قد علت الأبدان، ووجوها وضيئة من شتى الأصقاع تناجي الرحمن، التقت في صحراء عرفة، بثياب رثة لا تصلح لخيلاء، ولا تنفع لكِبر، نشيدهم العذب: لبيك اللهم لبيك، وحلو كلامهم: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار}، وجميل منطقهم: {ربنا هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}، وعذب حديثهم: لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وعالي صوتهم: لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا، وزفير أنفاسهم: رب اغفر وارحم إنك أنت الأعز الأكرم، وحشرجة صدورهم: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة، ونبضات قلوبهم: اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وتقلب أبصارهم: {ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقِنا عذاب النار}.

أجل، إنها الوحدة التي أكد المصطفى صلّى الله عليه وسلم على أمته أن تلزم غرزها، وتتمسك بمعصمها، وحذرها من مغبة فرقتها واختلافها، وقد كانت أقواله عليه الصلاة والسلام محرِضة على ذلك: “يا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى”.

ألا فلنتعلم من الحج كيف نتحد، ونوثق الأواصر، فلن يجمع شملنا، ويرفع كلمتنا، ويعيد مجدنا شيء مثل اجتماعنا على كلمة التوحيد الصافية النقية، وأخلاق المصطفى الراقية، وليكن نبراسنا الذي نستضيء به قوله الحق سبحانه: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}. والله ولي التوفيق.

* إمام مسجد عمر بن الخطاب - بن غازي - براقي