من فضل الله علينا أن جعل مجرد تلاوة القرآن الكريم عبادة يؤجر عليها المؤمن أجرا عظيما، كما جاء في الحديث الشهير: “من قرأ حرفا من كتاب الله؛ فله به حسنة. والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول: “ألم” حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف”، وهذا أجر عظيم جدا، وترغيب أعظم في مداومة التلاوة والإكثار منها، ثم يتنافس المؤمنون ارتقاء في درجات الكمال بحسب فهمهم لما يقرؤون، وتدبرهم فيه، وعملهم به.
لكن لا بد أن ننتبه أن القرآن العظيم إنما أُنزل دستورا للحياة ومنهج هداية للبشرية، وقد يكون من الجهل الكبير أن يقرأ العاقل ما فيه من البينات والهدى تعبدا، ثم يسير في حياته على هدى غير هداه، فإذ ذاك تصير القراءة عين الجهل، وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف عن ابن لبيد الأنصاري قال: ذكر رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- شيئا وقال: “هذا أوان ذهاب العلم، -أو قال-: هذا أوان انقطاع العلم”. فقلت: وكيف؟، وفينا كتاب الله نُعلّمه أبناءنا ويعلّمه أبناؤنا أبناءهم؟. قال: “ثكلتك أمك ابن لبيد؛ ما كنت أحسِبُك إلا من أعقل أهل المدينة، أليس اليهود والنصارى فيهم التوراة والإنجيل؛ ثم لم ينتفعوا منه بشيء” رواه أحمد. فعدم الانتفاع بما نقرأ -وخاصة القرآن العظيم- هو الضلال البعيد حقا.
وهذا ما يوجب علينا إعادة النظر في مناهج تعليم القرآن الكريم من جهة، وإعادة توجيه المسلم إلى المنهج الصحيح لتلاوة القرآن العظيم، المنهج الذي يخاطب أول ما يخاطب ضمير الإنسان، ونفسه، وروحه، وعقله، ولا يكتفي تالي القرآن فيه بتجويد حروفه وإتقان تلاوتها، يقول الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله: [نحن بحاجة إلى إعادة تنظيم طاقة المسلم الحيوية وتوجيهها، وأول ما يصادفنا في هذا السبيل هو أنه يجب تنظيم تعليم (القرآن) تنظيما (يوحي) معه من جديد إلى الضمير المسلم (الحقيقة) القرآنية، كما لو كانت جديدة، نازلة من فورها من السماء على هذا الضمير]. (ميلاد مجتمع، ص118).
وهذا نموذج من السلف الصالحين، يبين لنا كيف كانوا يقرؤون القرآن وكأنه أنزل عليهم، وكيف يتلونه وهم على يقين أنه يتحدث عنهم فردا فردا، وأنهم هم المعنيون أولا به وبأحكامه، مما رفعهم لمقام خير القرون وخير الناس، يقول التابعي الجليل مطرف بن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: “إني لأستلقي من الليل على فراشي؛ فأتدبر القرآن كله، فأعرض نفسي على أعمال أهل الجنة؛ فأرى أعمالهم شديدة: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون}، {والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما}، {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما}، فلا أرى صفتي منهم. فأعرض نفسي على أعمال أهل النار قالوا: {ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين}، فأرى القوم مكذبين فلا أراني فيهم. فأمر بهذه الآية: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم}؛ فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا أخوتاه منهم”.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة