إن الأصل في أموال الناس احترامها فلا يحل لأحد مال غيره إلا عن طيب نفس منه،قال صلى الله عليه وسلّم: “لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه”، ولما كانت التبرعات هي إخراج المرء جزءا من ماله ابتغاء مرضاة الله والثواب الجزيل يوم القيامة، كان لزاما أن تصدر عنهم عن طيب نفس لا يخالجه تردد، لأنها من المعروف والسخاء، ولذلك كان قصد الشارع فيها أن تصدر عن أصحابها صدورا من شأنه أن لا تعقبه ندامة، حتى لا ينجر للمحسن ضرر جراء إحسانه، فيحذر الناس فعل المعروف إذ لا ينبغي أن يأتي الخير بالشر، كما أشار إليه قوله تعالى: {لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده}، وقد نبه الشيخ الطاهر ابن عاشور إلى أن طيب النفس المقصود في التبرعات أخص من طيب النفس المقرر في المعاوضات، ومعنى ذلك أن تكون مهلة لزوم عقد التبرع عقب العزم عليه وإنشائه، أوسع من مهلة انعقاد عقود المعاوضات ولزومها.
وقد كان اشتراط الحوز في التبرعات ناظرا إلى هذا المقصد، بحيث لا يعتبر انعقاد عقد التبرع إلا بعد التحويز دون عقود المعاوضات، ولذلك كان حدوث مرض الموت قبل تحويز العطية مفيتا لها، وناقلا إياها إلى حكم الوصية، فقد جاء في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يابنيه ما من الناس أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جادا عشرين وسقا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، فاقتسموه على كتاب الله)، لأن حيازة المتبرع به وقبضه من قبل المتبرع له شرط لتمام عقود التبرعات.
وأما الإشهاد بالعطية، فهو قائم مقام الحوز في أصل الانعقاد، وبذلك قال مالك، ويرى ابن عاشور أن مالكا قد أخذ هذا المعنى من حديث النعمان بن بشير، حيث جاء في الصحيحين أن النعمان بن بشير قال: إن أباه بشيرا أعطاه عطية فقالت أمه عمرت بنت رواحة لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يارسول الله قال: أأعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، قال: “اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم”، قال: فرجع فرد عطيته، فهو دليل بين على أنها اعتبرت غير منعقدة قبل الإشهاد، ودليل بين على أن الإشهاد في العطايا كان من المتعارف عليه عندهم، فلذلك شرطت عمرة أن يكون الإشهاد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ومن المعلوم أن المتبرع قد يخشى تأخر الحوز فهو يعمد إلى الإشهاد ثم يتبعه بالحوز، وهذا عند المالكية كاف في تحقق التبرع، فيصير المتبرع عليه مالكا لما تبرع به المتبرع، وله حق المطالبة بالتحويز عندهم.وقد قال كثير من العلماء ومنهم الشافعي وأبو حنيفة: أن الحوز شرط صحة انعقاد التبرع، بحيث لا يلزم الوفاء بالتبرع إذا لم يحصل الحوز، ففي هذا توسعة على فاعل المعروف حتى تنجيزه لقوله.
قال البخاري في صحيحه: قال مالك: العرية أن يعري الرجل الرجل نخلة ثم يتأذى بدخوله عليه، فرخص له أن يشتريها منه بتمر. وعلق ابن عاشور على كلام الإمام البخاري فقال: وهكذا فهمنا أن الشريعة حريصة على دفع الأذى عن المحسن أن ينجر له من إحسانه، لكيلا يكره الناس فعل المعروف.
وانسجاما مع ما ذهب إليه البخاري، قال ابن رشد: (إعارة المتاع من عمل المعروف وأخلاق المؤمنين فينبغي للناس أن يتوارثوا ذلك فيما بينهم ويتعاملوا به، ولا يشحوا به ويمنعوه، ومن منع ذلك وشح به فلا إثم عليه ولا حرج، إلا أنه قد رغب عن مكارم الأخلاق ومحمودها واختار لئيمهاومذمومها، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: “لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه”.
ولقد اعتنت الشريعة بهذا المقصد اعتناء شديدا، حيث حرصت على عدم حصول أدنى درجة من عدم الرضا عند خروج الأموال من أيدي أصحابها في سبل الخير والتبرعات، فقد سئل أبو سعيد بن لب عمن وهبت هبة على وجه الخفاء والحياء، هل تطيب للمتصدق عليه أم لا؟ فأجاب قد قال الفقهاء في الصدقة إذا طلبت من المتصدق وفهم من حاله أنه أعطاهاحياء وخجلا، أو غير طيب النفس، أنها لا تحل للمتصدق عليه.
وسئل أبو الحسن الصغير عمن تصدق على ولد له كبير مالك أمر نفسه وماله، بملك فحازه الولد حوزا تاما، وبقي يغتله ويتصرف فيه مدة من سنة أو أعوام، ثم أراد تفويت الملك فمنعه أبوه من البيع، واستحفظ برسم استحفاظ يقتضي أنه إنما كان تصدق على الولد بالملك، اتقاء شر زوجته أم ولده، وخوفا من أن تتغير عليه، فهل يقدح هذا في الصدقة أم لا؟
فأجاب: إذا كان الأمر على ما وصفتم،فالاستحفاظ المذكور قادح في الصدقة المذكورة، سواء عرفت التقية المذكورة أم لم تعرف، بخلاف عقود المعاوضات فيشترط فيها معرفة التقية على المنصوص في غير موضع، لأن الإنسان لا يلزمه من المعروف إلا ما يقر به، وقد ثبت أن هذا لم يلتزم هذه الصدقة بشهادة شهود الاستحفاظ المتقدم تاريخه على تاريخ الصدقة أن ما يعقده في المستقبل صدقة ليس بصدقة، فوجب أن يرد الملك المذكور إلى يده حسبما كان أول مرة إن أراد..والله أعلم.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر