من حكمة المولى سبحانه أنه نوَّع الأحكام والتكاليف ليختبر عباده، ولينظر كيف يكون امتثالهم، فهل يكون فعلهم وتركهم تبعا لهواهم؟ أم يكون إقدامهم طلبا لرضا مولاهم؟
إننا إذا تأملنا ما كلفنا ربنا به من عبادات، وجدنا أن بعضها بدني محض، وبعضها مالي محض، وبعضها مالي وبدني في آن واحد، وذلك كي يتبين البخيل من الجواد، والمسارع من المتثاقل، وعابد ربه من عابد هواه. فمن المكلفين من يجد في الصلاة مثلا، ويصعب عليه أن يبذل لله درهما واحدا، ومنهم من يروق له البذل والعطاء، ويشق عليه أن يسجد لله ركعة واحدة؛ فجاء هذا التنويع في العبادات ليعرف من يمتثل تعبدا لله، ومن يسير تبعا لما يُملي عليه هواه.
كما أن ربنا سبحانه نوَّع العبادات من حيث زمنها ووقتها، فهناك عبادات غير مقيدة بوقت، كالذكر وقراءة القرآن، وهناك عبادات مقيدة بالوقت المعين كالصلاة، يؤديها العبد خمس مرات يوميا، وهناك عبادة أسبوعية، وهي صلاة الجمعة، وعبادات سنوية، تأتي مرة واحدة في العام، كالصوم والزكاة، وهناك عبادة عمرية تجب على العبد مرة واحدة في عمره التي هي الحج، فمن زاد فزيادته تطوع.
وللحج فضائل عظيمة جليلة، فمن ذلك أنه من أفضل الأعمال، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سُئل: أي العمل أفضل؟ فقال: “إيمان بالله ورسوله”، قيل: ثم ماذا؟ قال: “الجهاد في سبيل الله”، قيل: ثم ماذا؟ قال: “حج مبرور”. ومن فضائله أنه يمحو الله به الذنوب والخطايا “من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه”. كما أن الحج ينفي الفقر “تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة”.
ومن فضائله أنه يرفع المراتب والدرجات “ما ترفع إبل الحاج رجلا، ولا تضع يدا إلا كتب الله له بها حسنة، أو محَا عنه سيئة، أو رفع بها درجة”. ومن فضائل الحج أنه إن كان مبرورا، فليس له جزاء إلا الجنة “العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”. وأنه يهدم ما قبله، فعن ابن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلا وحوّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إني كنت على أطباق ثلاث: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه قال: فقبضت يدي، قال: “ما لك يا عمرو”؟، قال: قلت: أردتُ أن أشترط، قال: “تشترط بماذا”؟، قلت: أن يغفر لي، قال: “أما علمتَ أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله”.
ومن فضائل الحج أنه جهاد الصغير والكبير، والمرأة والضعيف، ومن لا يقوى على الجهاد، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: “لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور”، ومن الفضائل أيضا أن الحجاج والعُمّار وفْدُ الله: “وفد الله ثلاثة: الغازي والحاج والمعتمر”. ومن فضائله أن من خرج حاجا أو معتمرا فمات، كتب له أجر الحاج والمعتمر إلى يوم القيامة: “من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيا فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة”، يقول ابن عباس: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته أو قال: فأوقصته، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: “اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه، فإنه يُبعث يوم القيامة ملبِيا”.
فهنيئا لمن يموت في تلك البقاع وهو محرم، فيبعث يوم القيامة ملبيا، والناس يبعثون من قبورهم في فزع وقلق، وأهوال جسيمة، وكروب عظيمة، فبينما الحال كذلك يأتي صوت لطالما اهتزت له القلوب، واشتاقت له الأنفس، وتهافتت عليه الأرواح، وطربت له الآذان، ورددته الألسنة، ودمعت له العيون: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”.
*إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي