كانت للدكتور جمال يحياوي تجربة مميزة في نشر مقال عنونه "مائة شخصية عالمية ساندت ثورتنا"، والذي نشر على صفحات "الخبر" مرتين في الأسبوع لأكثر من عام. وبعد نهاية نشر هذه المقالات، ارتأت "الخبر" العودة رفقة الدكتور يحياوي إلى هذه التجربة الفريدة، والتي كانت مناسبة للتعريف بأسماء عربية وإفريقية وعالمية ساندت الثورة التحريرية، واكتشاف دورها الكبير في دعم عدالة القضية الجزائرية عالميا. يحدثنا الدكتور يحياوي، في هذا الحوار، عن هذه التجربة، عن فكرتها، صعوباتها، مصادرها ومتعتها، كما يكشف لنا عن فكرة مشروع بحث تاريخي جديد سيرى النور قريبا.
نشرت لك بجريدة الخبر سلسلة مقالات تاريخية بعنوان "مائة شخصية عالمية ساندت ثورتنا"، كيف وجدت هذه التجربة مع "الخبر"؟
بعد واجب الشكر والتقدير لجريدة "الخبر"، مدير عام ورئيس تحرير ومسؤولي الصفحة الثقافية على الثقة في فكرة المشروع، وعلى المرافقة أثناء مدّة نشر الحلقات المائة، والتي تجاوزت السنة، أقول إنّ التجربة كانت مهمّة بالنسبة لي من عدّة جوانب، تجربة علّمتني الالتزام بحلقتين كلّ أسبوع، يومي الأحد والخميس، يعني تحضير المادّة لكل حلقة، والحرص على تنوّع الشخصيات، ومراعاة الأحداث الدولية وارتباطها بمسيرة الشخصيات المنشورة، ثمّ إن قواعد النشر والالتزام بمادة محدّدة لكلّ الحلقات في حدود 600 كلمة لكلّ شخصية لاعتبارات فنية وتقنية، سمح لي بالتحكّم في المادة المراد نشرها،حيث تكون متساوية وبأسلوب صحفي يراعي مستويات القرّاء ومختلف الفئات العمرية. وقد أعادتني هذه التجربة إلى بداياتي الإعلامية، حين كنت أكتب مقالات في الصحافة الوطنية، لكن هذه التجربة متميّزة للالتزام بنشر مادة تاريخية على مدار 14 شهرا بمعدّل حلقتين في الأسبوع. لكن ما أثّر فيّ كثيرا هو وقوف طاقم الجريدة إلى جانبي أثناء الأزمة الصحية التي ألمّت بي والسؤال الدائم عن حالتي، والأهم هو بقاء الصفحة تنتظر عودة نشر الحلقات، وهذا ما تمّ بالفعل، فالشكر موصول لكل طاقم الجريدة، وأتمنى أن تكون لنا تجربة ثانية ومع موضوع هادف آخر.
كيف جاءت فكرة كتابة هذا المقال، ولماذا 100 شخصية؟
فكرة الكتابة عن الشخصيات العالمية التي ساندت ثورتنا راودتني منذ زمن بعيد، من خلال أبحاثي ومطالعاتي عن الثورة التحريرية، وبعدها العالمي، واكتشافي لشخصيات لها وزنها في العالم وقفت إلى جانب ثورتنا، لكن لا نعرفها انطلاقا من معرفة أصدقاء الثورة الجزائرية عبر شبكة جونسون أو شبكة حملة الحقائب، إذ لا نجد أثرا للشخصيات العربية والآسيوية والإفريقية، وحتى من أوروبا الغربية، حتى ارتبط الدعم الأجنبي للثورة أو أصدقاء الثورة الجزائرية بشبكة حملة الحقائب فقط، فمثلا، ملوك وأمراء عرب ورؤساء دول كبرى ورؤساء حكومات ووزراء قدّموا دعما كبيرا لثورتنا، ولا نجد لهم ذكر في المؤلفات التي تتناول الموضوع، مثلا القليل يعرف أن رئيس وزراء كندا، روني ليفيسك، ساند ثورتنا، أو الوزير والبرلماني البريطاني المثير للجدل طوني بن، أو الروائي المصري يوسف إدريس، أو المفكر الإيراني علي شريعتي، كلهم ساندوا ثورتنا أيضا.أمّا بالنسبة للعدد 100، فهو نمطي لأن هناك آلاف الشخصيات العالمية التي ساندت ثورتنا، كلّ من موقعه، لكن اخترت الرقم مائة لدلالات صحفية، وليكون العنوان مثيرا للانتباه وتجاوز العنوان الكلاسيكي أصدقاء الثورة الجزائرية، ثم ّالرقم 100 سمح لي بتقديم شخصيات متنوّعة ومن بلدان مختلفة ووظائف ومهن عديدة، حاولت تصنيفها إلى عشر وظائف: ملوك ورؤساء، رؤساء حكومات، وزراء، رجال أعمال،إعلاميين، سياسيين ورؤساء أحزاب، رجال قانون من قضاة ومحامين، فنّانين، نساء،أكاديميين.
هل تفاجأت خلال بحثك على هذه الشخصيات باسم أو شخص أثّر فيك أو لم يكن في الحسبان؟
من خلال بحثي وتنقيبي عن المعلومات المتعلّقة بكلّ شخصية، صادفتني العديد من المواقف التي أثّرت في كثيرا، سواء من خلال ممارسات أو تصريحات تلك الشخصيات، فلكلّ شخصية من الشخصيات المائة العالمية موقف وقصّة مثيرة، خاصّة أولئك الذين دفعوا الثمن غاليا من أجل مساندة ثورة بعيدة عنهم وعن شعوبهم، لكن عدالة القضية هي التي دفعتهم إلى ذلكّ ولعل من الشخصيات التي أثّرت في بمواقفها شخصية، الأرجنتيني روبرتو مونيز المدعو محمود، والذي تكبّد مصاعب السفر من بيونيس إيرس إلى غاية الحدود الغربية للجزائر من أجل الالتحاق بجيش التحرير الوطني والعمل في صفوفه إلى غاية الاستقلال، ثم اختيار البقاء في الجزائر المستقلة بعد أن تنقّل إلى الأرجنتين لجلب زوجته ومواصلة العمل في شركة الكهرباء والغاز حتّى تقاعده، هذا الرجل كان يحبّ الجزائر حبّا جنونيا. ومن الشخصيات النسوية التي أثّرت فيّ بعض النساء الأوروبيات اللواتي ضحّين بأبنائهن منأجل الثورة الجزائرية، ومنهنّ من دخلن السجن وهن حامل وتعرّضن لضغط رهيب. أما التّصريحات التي أثّرت فيّ كثيرا وكلّما تذكرتها غالبتني دموعي، مقولة الأديب اللبناني الكبير سهيل إدريس، صاحب مجلة ودار الآداب ومؤلف القواميس، الذي ساند ثورتنا وزار الجزائر مباشرة بعد الاستقلال، وأثناء تواجده بالجزائر، خرج ليلا إلى حديقة الفندق يحمل زجاجة فارغة بيده، وحين انحنى إلى الأرض، سأله أحد العاملين ما الذي تفعل؟ فأجابه أملأ هذه الزجاجة من تراب الجزائر، فانحنى لمساعدته، فقال سهيل إدريس كلمة مؤثّرة: "أتركنيأملأْها بيدي، إنّه ترابٌ مقدّس، أحمل حفنة منه إلى بلدي"..عبارة لن أنساها أبدا.
لكل بحث صعوبات، ماهي الصعوبات التي صادفت الدكتور يحياوي خلال هذه التجربة؟
لكلّ عمل علمي وبحث جاد صعوبات يعرفها من اشتغل في هذا الحقل، ولعلّها صعوبة الحصول على المادّة التاريخية حول العديد من الشخصيات، فمرّات أقرأ مئات الصفحات لأعثر على سطر أو سطرين حول الشخصية المعنية، وقد يعود هذا إلى صفة العمل السرّي الذي ميّز نشاط هؤلاء للتهرّب من متابعة مصالح المخابرات الفرنسية، كما أن شخصيات عديدة لا نجد عنها معلومات وافية عن سيرتها الذاتية، ماعدا نشاطها لصالح الثورة الجزائرية.من بين الصعوبات كذلك الترجمة من لغات أخرى غير الفرنسية والإنجليزية، ممّا يتطلّب الدقة في نقل المعلومات، كما كتبت بلغتها الأصلية، مثل الشخصيات الألمانية والسويدية، ومن بين الصعوبات أيضا ما هو فنّي مرتبط بمساحة النشر، إذ ينبغي أن تكون المادة المنشورة حول كلّ شخصية متساوية، كما ذكرت في حدود 600 كلمة، لكن الصعوبة تكمن في كون بعض الشخصيات كتبت عنها مؤلفات وآلاف الصفحات، في حين البعض الآخر لا نجد إلا شذرات هنا وهناك، وكان علي أن أقدم مادة متوازنة.صعوبة أخرى يمكن ذكرها، وهي الاختيار من بين الشخصيات التي تشترك في نفس المسار والمساندة والبلد مثلا من أقطاب الحزب الاجتماعي الديمقراطي الألماني، شخصيات عديدة ساندت ثورتنا، فكان علي اختيار الشخصيات المؤثرة، ونفس الشيء ينطبق على الشخصيات السويسرية والبلجيكية. وهناك أمر عقّد مهمة البحث، وهو الأسماء المستعارة لبعض الشخصيات، والتي لم نتمكّن من معرفة مسيرتها من خلال الاسم الحقيقي، لأن أغلب المصادر تذكر الاسم المستعار أو الاسم الحركي.وأختم بصعوبة خاصّة ببعض الدول العربية التي انخرطت بكل مكوناتها في مساندة الثورة الجزائرية، وبرز الدور الحكومي الرسمي على حساب الأفراد.
هل يمكن أن تعرفنا بالمصادر والمراجع التي اعتمدت عليها في بحثك؟
اعتمدت على عشرات المصادر والمراجع المتنوعة وبمختلف اللغات إضافة إلى الجرائد والمجلات، ولعلّ أهم مرجع هو ما كتبه الأستاذ رشيد خطاب في مؤلفه المهم حول أصدقاء الثورة الجزائرية، خاصّة بالنسبة للأوروبيين، وكان علي أن أبحث أكثر لأن عمل الأستاذ خطاب يرشدك إلى الشخصيات التي ساندت ثورتنا من أوروبا واليابان، ولا يمكن الاستغناء عنه، لكن لم يتطرّق إلى الشخصيات المساندة لثورتنا من العالم العربي والإسلامي وإفريقيا، والتي قدّمتها في سلسلة المائة شخصية وهي تمثّل 40 في المائة، وهو ما اضطرني إلى البحث في الرسائل الجامعية من دكتوراه وماجستير، أغلبها بعنوان متشابه "الدعم العربي أو دعم دولة عربية بعينها للثورة الجزائرية"، كما اعتمدت على الصحافة، ومنها صحافة الثورة ممثلة في جريدتي المجاهد والمقاومة، والصحف الإيطالية والألمانية والفرنسية، إضافة إلى بعض القواميس التي تؤرخ للشخصيات، وكذا المذكرات والشهادات الشخصية، سواء لمذكرات الفاعلين أنفسهم من مساندي الثورة الجزائرية، على غرار مذكرات رئيس الحكومة الليبي مصطفى بن حليم، أو مذكرات من عرفوهم من الجزائريين، مثل مذكرات علي هارون وعمر بوداود وغيرها.
كل بحث ودراسة تاريخية هي إضافة لرصيد الذاكرة الوطنية، كيف ستخدم هذه الشخصيات أرشيف الثورة وحتى الباحثين في تاريخها؟
سؤال جوهري، لأن الغاية من كلّ بحث هو ما يقدّمه من إضافة للدارس والباحث والقارئ،الهدف الأول: بالنسبة لي هو إبراز عدالة الثورة الجزائرية، لأنه لولا عدالة هذه الثورة، ما وجدت من يساندها من كلّ أنحاء المعمورة، ثانيا تقديم هذه الشخصيات من مختلف الأجناس والديانات والقارات دليل على عالمية الثورة، ثالثا: مرافقة دبلوماسية الدولة الجزائرية اليوم من خلال التركيز على العلاقة التاريخية التي ربطت الجزائر بهذه الدول في مرحلة تاريخية صعبة من خلال الشخصيات المساندة لثورتها، نموذج رجل الأعمال الإيطالي المدير العام لشركة إيني الإيطالية أنريكو ماتيي، أو نموذج الشخصيات الليبية ملكا ورئيس حكومة ورجال أعمال، أو نموذج الوزير الأول الصيني شوان لاي، أو نموذج وزير داخلية النمسا كارل بليشا، أو نموذج المفكر الإيراني علي شريعتي، أو عشرات الشخصيات السويسرية، وهو ما نراه اليوم في صورة التعاون الاقتصادي والتوافق السياسي بين هذه الدول والجزائر. فالعلاقات التاريخية من خلال مسار الشخصيات، هي من ترسم العلاقات الحالية، رابعا: ناهيك عن تقديم مادة علمية تاريخية تسمح للباحث والدارس من توظيفها كلّ حسب حاجته،خامسا: إثراء المكتبة التاريخية الجزائرية.
بعد نهاية نشر هذه السلسلة، هل تنوي البحث في أسماء جديدة لأصدقاء الثورة التحريرية أم هناك مشروع آخر في الأفق؟
مرّة ثانية، أجدّد شكري لجريدة "الخبر" التي فتحت لي شهية الكتابة في هذا النوع من السير المركّزة والمختصرة، خاصّة بعد تفاعل القرّاء مع الحلقات المنشورة، فكنت أتلقّى اتصالات عديدة من مختلف دول العالم ومن ممثلياتها الدبلوماسية في الجزائر كلّما نشرت سيرة شخصية من ذلك البلد، ومنه أفكر في مشروع مشابه، لكن مختلف من حيث المحتوى، حيث أشتغل على سيرة الجنرالات الفرنسيين الذين ارتكبوا مجازر ضد الإنسانية في الجزائر خلال ق 19 و20م، لأننا في العادة نعرف أسماء الجنرالات الفرنسيين الذين ارتكبوا مجازر أثناء الثورة التحريرية وبعض الجنرالات في بداية الاحتلال، لكن بحثي سمح لي بالوصول إلى عشرات الجنرالات غير المعروفين، والذين روّعوا الشعب الجزائري في مختلف المناطق،خاصّة في الجنوب الجزائري الشاسع، وبعضهم ارتكب جرائم في الشرق والغرب والوسط والجنوب، ورغم تكوينهم العلمي العالي وتكوينهم العسكري المحترف، فأغلبهم من خريجي المدارس العسكرية الكبرى، إلا أنهم تجرّدوا من إنسانيتهم،وحوّلوا معارفهم العسكرية والعلمية إلى أسلوب ومنهج لإبادة الجزائريين.