+ -

إن مقصود الشريعة الأعظم من التبرعات والأعمال الخيرية هو إقامة مصالح ضعاف المسلمين وقضاء حوائجهم التي لا تستقيم حياتهم العادية إلا بتمامها، ولا يبلغ هذا المقصد تمامه إلا إذا كان الإنفاق بمقادير لها بال وبصورة دائمة وعامة، حيث يستمر معها الإنفاق بمقادير متماثلة في سائر الأوقات، حيث قال تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}، لأن دوام الإنفاق وعمومه لا يحصل إلا ببذل الفاضل على حاجات المنفقين، فلا يشق عليهم ولا يتخلف عن ذلك أحد، قال ابن عاشور في تفسير هذه الآية: (وبهذا يحصل التعميم والدوام بالإنفاق من الفاضل على حاجات المنفقين، فحينئذ لا يشق عليهم فلا يتركه واحد منهم، ولا يبخلون به في وقت من أوقاتهم، وهذه حكمة بالغة وأصل اقتصادي عمراني)، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وبدأ بمن تعول”، ولا يجب أن يفهم من هذا الحديث أن الإنفاق الصادر عن غير غنى هو دون ذلك، فإن ثناء الشريعة على إنفاق الغني لا ينقص من فضل إنفاق المقل شيئا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: “أفضل الصدقة جهد المقل”.

وإقامة لهذا المقصد، جعل الله بعض وجوه الإنفاق حق له في أموال أصحاب الفضل ليعودوا بها على المحتاجين ويدفعوا بها ضرورات المضطرين، فكانت من باب الواجبات؛ كالزكاة والنذور والكفارات. وبناء عليه، فإن أداء الزكاة في المحل غير المقصود شرعا لا يعد إخراجا لها، قال ابن عبد السلام: إذا أخذ أئمة الجور الزكاة وصرفوها في مصارفها أجزأت، وإن صرفوها في غير مصارفها لم يبرأ الأغنياء منها، على المختار لما في إجزائها من تضرر الفقراء، فالقول بإجزاء أخذها نافع للأغنياء مضر للفقراء، ودفع المفسدة عن الفقراء أولى من دفع المفسدة عن الأغنياء، وإن شئت قلت مصالح الفقراء أولى من مصالح الأغنياء، لأنهم يتضررون بعدم وصول نصيبهم من الزكاة ولا يتضرر به الأغنياء من تأدية الزكاة، وإخراج الزكاة عن مقصدها ليس أمرا محصورا في ولاة الأمور، بل قد يقع من أصحابها، كالذي يدفعها إلى من تجب عليه نفقته لتكون عوضا عن النفقة، فقد عطل بذلك المقصود منها فصارت عبثا.

ولما كانت تلك الواجبات قد لا تفي بحاجات ذوي الحاجات، ندب الشرع الكريم إلى جملة من التصرفات لتكون عونا على إقامة المقصود الأعظم واستكمالا لهيئته وإتماما لنفوذه، ولأجل هذا، شرعت الأحباس (الأوقاف) والوصايا والعواري والصدقات والهدايا والضيافات، وجميع أنواع التبرعات، حيث جعلت المصلحة العاجلة في هذه التصرفات للقابلين القابضين الذين هم أحوج إليها في دار الغرور، وجعلت المصلحة الآجلة للباذلين المنفقين الذين هم أحوج إليها في دار القرار.

فالحُبُس (الوقف) في حد ذاته، بغض النظر عما يعرض له من مقاصد المحبسين السيئة، هو مصلحة واضحة لما فيه من الصلة، وإحداث المودة بين المعطي والمعطى له وإغاثة الملهوف وإغناء المحتاج، وإقامة كثير من مصالح المسلمين، وتسديد ضروراتهم العامة، قال ابن راشد القفصي في بيان الحكمة من تشريعه: تكثير الأجر وعموم النفع ومراعاة مقاصد العبيد بعد الممات والتنبيه على أن أعمالهم محفوظة عليهم.

ومما يندرج في سلم هذه المعاني، ما نقله الونشريسي في معياره: عن محي الدين النووي لما سئل عن سلطان اشترى من بيت المال أرضا أو غيرها ووقفه على شيء من مصالح المسلمين كمدرسة أو مارستان أو رباط أو خنقات أو زوايا أو رجل صالح وذريته أو على الفقهاء، هل يصح وقفه على ذلك؟ فأجاب: نعم، يصح وقفه من بيت المال إذا رأى ذلك مصلحة، لأن مال بيت المال لمصالح المسلمين وهذا منها.

فلما كان إقامة مصالح ضعاف المسلمين وقضاء حاجات المعوزين وسد خلة الفقراء منهم وإجابة المضطرين هو مقصود الشريعة الأعظم من أعمال البر والتبرعات، وكانت فروض الأعيان من الزكوات وما يلحق بها وما يضاف إليها من أنواع المندوبات مسلكا لإجابة تلك المطالب، لكن إذا قدر في زمن ما نزول الجوائح والعاهات وضروب الآفات، فانتشر الفقر والمرض بين الناس، وعجزت تلك المسالك عن الوفاء بها، فالواجب إنقاذ المشرفين على الردى من المسلمين وإجابة ضروراتهم، وكان حقا على ولي الأمر أن يجعل الاعتناء بهم من أهم الأمور في باله، فالدنيا بحذافيرها لا تعدل تضرر فقير من فقراء المسلمين في ضر، فمن انتهى نظره إليهم، رم ما استرم من أحوالهم. أما إذا لم يبلغهم نظر الإمام، فوجب على ذوي اليسار والاقتدار المبادرة إلى دفع الضرر عنهم، لأنه إذا كان تجهيز الموتى من فروض الكفاية، فحفظ مهج الأحياء، وتدارك حشاشة الفقراء أتم وأهم.

واندراجا في هذا المعنى، قال إمام الحرمين: فإذا فرض بين ظهراني المسلمين مضرور في مخمصة، أو جهة أخرى من جهات الضرورة، واستمكن المثرون والموسرون من إنقاذه بأموالهم، وجب ذلك على الجملة ثم يدرك بمقتضى العقل وراء ذلك أمران: أحدهما؛ أن من سبق إلى القيام بذلك، فقد سقط الفرض عن الباقين. الثاني؛ أن الموسرين بأجمعهم لو تواكلوا وتخاذلوا وأحال البعض على البعض حتى هلك المضطر، حرجوا من عند آخرهم، إذ ليس بعضهم بالانتساب إلى التضييع أولى من بعض، وقد عمهم العلم والتمكن من الكفاية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتن ليلة شبعان وجاره طاو”.

* رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر