يتسرب الشك والارتباك إلى مفاصل صناع القرار السياسي والعسكري في الكيان الصهيوني، على خلفية مدى قدرة جيش الاحتلال في تحقيق أي "انتصار" في قطاع غزة، إذ وبعد الدخول في الشهر الثامن من بدء حرب الإبادة الجماعية ضد القطاع، تشتكي القوات الصهيونية المتوغلة في مختلف المحاور من عدم قدرتها على تحييد الفصائل الفلسطينية المقاومة التي لا تزال تكبدها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، مع مطالب من عائلات الجنود والمعارضة وعسكريين صهاينة سابقين بوقف هذه الحرب العبثية التي أصبحت "تستنزف" الجيش محذرين أنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار الكيان الصهيوني.
وتعمق الانشقاق داخل الحكومة الصهيونية بقيادة بنيامين نتنياهو، إذ أشارت وسائل إعلام عبرية نقلا عن مصادر في "مجلس الحرب"، قولها إن العلاقات داخل هذا المجلس "تدهورت بشكل كبير" في الآونة الأخيرة ليس بين المستوى السياسي نفسه وحسب، وإنما بين المستوى السياسي والعسكري أيضا.
وأشارت المصادر بأن التوترات داخل "كابينيت الحرب" نشبت خصوصا جراء عدم اتخاذ قرارات "إستراتيجية" وعدم إحراز تقدم في مسألة الأسرى"، مشددة أن تفكك هذا المجلس أصبح مسألة وقت فقط.
ويبدو أن عدم تحقيق أحد أهداف اجتياح غزة، على غرار استرجاع الأسرى الصهاينة لدى حركة المقاومة الإسلامية حماس وحركة الجهاد الإسلامي، ستدفع العديد من الشخصيات العسكرية الوازنة للاستقالة والانسحاب من "الكابنيت"، على غرار وزير الدفاع، يوآف غالانت، ورئيس الأركان العامة لجيش الاحتلال بيني غانتس، ورئيس هيئة أركان الجيش الصهيوني غادي آيزنكوت وكلهم لا يتفقون في كيفية تسيير الحرب على غزة.
وينفرد نتنياهو بقرارات حاسمة سواء حول اجتياح رفح أو مفاوضات صفقة تبادل الأسرى مع حماس، وكذا انصياعه لوزيري المالية والأمن المتطرفين، سموتريتش وبن غفير.
ووجه غالانت الأسبوع الماضي هجوما علنيا حادا على نتنياهو، على خلفية مماطلة الأخير باتخاذ قرار بشأن اليوم التالي للحرب على غزة، واعتبر أن ذلك يقوض التقدم العسكري للاحتلال في القطاع المحاصر، في حين طالبه نتنياهو بـ"القضاء على حماس دون أعذار" معتبرا أنه لن يستبدل حكم حماس بحكم فتح،" ما يدلل أن نتنياهو يريد احتلال غزة".
وحث غالانت، نتنياهو، على تجنب احتلال غزة باعتبار أنه سيكلف الجيش المزيد من الخسائر والاستنزاف، وطالبه باتخاذ قرارات تتيح إيجاد بدائل سلطوية لحماس في غزة، كما أكد غانتس من جهته، أن غالانت "محق لأن مسؤولية القيادة هي القيام بالشيء الصحيح من أجل الدولة، بأي ثمن".
ويواصل نتنياهو تحدي كل هذه المطالب والانشقاقات التي تطال الكيان الصهيوني على المستويات السياسية والعسكرية الاقتصادية والاجتماعية، مصرا أنّ حرب الإبادة في غزة لن تتوقف حتى "تحقق أهدافها"، وهو ما تعتبره المعارضة موقفا نابعا من "مصالح سياسية شخصية" لرئيس الوزراء، الذي يعلم أن إنهاء الحرب فورا "سيقضي على مستقبله السياسي، بل سيقوده للمحاكمة بسبب قضايا فساد سبق اتهامه بها".
وفي هذا السياق، أكد اللواء في احتياط جيش الاحتلال الصهيوني، إسحاق بريك، قبل يومين، أنّ ما يحدث في غزة في الوقت الحالي هو "حرب استنزاف"، محذراً من أنّ إطالتها "ستؤدي إلى انهيار الجيش والاقتصاد" في الكيان الصهيوني.
ونقلت وسائل إعلام عبرية عن بريك قوله أن الجيش الصهيوني "بحاجة إلى الترميم فوراً"، معترفا بعجز بهذا الجيش عن هزيمة حركة حماس في غزة، مشيراً إلى أن القطاع "يمثل ساحة واحدة من أصل ست ساحات"، في إشارة إلى جبهات إيران واليمن وسوريا والعراق ولبنان، والحرب ضدها "لا تشمل إطلاق آلاف الصواريخ يومياً، كما هي الحال في سيناريوهات الحرب في ساحات أخرى، مثل لبنان وإيران".
ولدى تناوله الأسباب التي ستؤدي إلى انهيار الجيش والاقتصاد الصهيونيين في حال إطالة الحرب، حذّر بريك من "عدم وجود جنود ليحلوا محل الذين يقاتلون حاليا، وعدم وجود يد عاملة كافية، وسط حملة المقاطعة العالمية التي تعرّض لها الكيان".
وتزداد معارضة هذه الحرب كذلك داخل "الكنيست" الصهيوني، أين تتصاعد أصوات من المعارضة والموالاة لقبول صفقة تبادل للأسرى ووقف إطلاق النار، حيث قال النائب عن حزب "هناك مستقبل"، رام بن باراك، أن الكيان يتجه لخسارة هذه الحرب، كما أن الاقتصاد سينهار، مشددا، "هذه الحرب أصبحت بلا هدف ونحن نخسرها بشكل لا لبس فيه"، مضيفا: "نحن مجبرون على العودة للقتال في نفس المناطق، وخسارة المزيد من الجنود، كما نتعرض لعزلة دولية وعلاقتنا بواشنطن تتدهور، واقتصادنا ينهار،" مختتما: "أرني شيئًا واحدًا نجحنا فيه؟".
وفي نفس السياق، قال عضو "الكنيست"، عاميت ليفي، أن "كل كتائب حماس الـ 24 موجودة في غزة، بحيث لم يتم تدمير أيا منها، عكس ما يتم ترويجه من نتنياهو، لإقناع المستوطنين بأن الحرب تحقق أهدافها.
وأضاف ليفي في حديثه إلى "القناة 14" العبرية بقوله: "إلى جانب صمود حماس، لا تزال حركة الجهاد الإسلامي موجودة، فقد كذبوا علينا بأنّه تم القضاء عليها".
من جهتها، ضمت عائلات الجنود الصهاينة المشاركين في الحرب على قطاع غزة، صوتها إلى الأصوات المنادية بوقف الحرب ضد غزة، أملا في عودة أبنائهم أحياء، بعد أن أصبحت هذه الحرب "بلا هدف".
ونقل الإعلام العبري ممثلين عن هذه العائلات الذي أكدوا أنهم يتحدثون نيابة عن أكثر من 1000 من عائلات العسكريين المشاركين في حرب غزة، مشددين "أننا أدركنا أن استمرار الحرب يمثل مُخاطرة وتضحية بحياة أبنائنا، في وقت لا يوجد أي مخرج."
وأضافت هذه العائلات أنها وأبنائها من الجنود قد "فقدوا الثقة في القيادة العسكرية وفي حكومة نتنياهو".
وتضاف عائلات الجنود الصهاينة المقاتلين في غزة إلى حملة المظاهرات والاحتجاجات التي تنظمها المعارضة وعائلات الأسرى الصهاينة من أجل الضغط على نتنياهو بإبرام صفقة مع الفصائل الفلسطينية في غزة تؤدي إلى وقف الحرب، وإعادة الأسرى المحتجزين بالقطاع.
وفي الشهر الثامن من الحرب، عاد جيش الاحتلال إلى القتال في مناطق في شمالي قطاع غزة، حيث يقع الجنود الصهاينة بين قتلى ومصابين، بعدما زعم الاحتلال أنّه "تم تطهيرها".
وبوتيرة يومية، تعلن فصائل المقاومة عن قتل وإصابة جنود صهاينة وتدمير آليات عسكرية، وتبث مقاطع مصورة توثق بعض عملياتها.
وتواجه السلطات الصهيونية اتهامات محلية بالتستر على حصيلة أكبر بكثير من القتلى والجرحى بين صفوف الجيش.
وتعكس هذه المستجدات حجم الانشقاق بين المستوى العسكري والسياسي داخل الكيان الصهيوني، وهو ما ينبئ باقتراب انفجار حكومة نتنياهو ومجلس الحرب، كما تعكس استماتة المقاومة الفلسطينية التي عرفت كيف تسير هذه الحرب الوحشية سواء على الميدان العسكري أو الدبلوماسي والسياسي لتقترب من تكبيد الكيان هزيمة جديدة تضاف إلى انجازات معركة "طوفان الأقصى".