قد يستكِنُّ في معتقد جمهور من أهل العلم، قبل الفحص والغوص في تصرفات التشريع، أن الشريعة إنما جاءت لتغيير أحوال الناس وتصرفاتهم التي تعودوا عليها في حياتهم. والتحقيق أن للتشريع مقامين، تغيير وتقرير:
المقام الأول: تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها، وهذا المقام هو المشار إليه بقوله تعالى: {ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} المائدة:١٦. والتغيير قد يكون إلى شدة على الناس رعيا لصلاحهم، وقد يكون إلى تخفيف إبطالا لغلوّهم، مثل تغيير اعتداد المرأة المتوفى عنها زوجها من تربص سنة إلى تربص أربعة أشهر وعشر، إذ لا فائدة فيما زاد على ذلك، إذ التربص لا تظهر منه فائدة للميت ولا للمرأة، إلا لحفظ نسب الميت لو ظهر حمل، وتلك المدة كافية لظهور الحمل وتحركه.
ومن حكمة التغيير الذي جاءت به الشريعة الحرص على المحافظة على رسوخ التغيير نفسه في تصرفات الناس، لأنه يتطرق إليه التساهل من طرفيه. فإن كان تغييرا إلى أشد تطرق إليه طلب التقصي منه، وإن كان إلى أخف تطرق إليه توهم أن تخفيفه عذر للأمة في نقضه. فلذلك، لم يرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة السائلة عن اكتحال عيني ابنتها في عدة وفاة زوجها لعذر مرض عينيها، وقال لها: “لا (مرتين أو ثلاثا) إنما هي أربعة أشهر وعشر” رواه مالك في الموطأ.
والمقام الثاني: تقرير أحوال صالحة قد اتبعها الناس، وهي الأحوال المعبرِ عنها بالمعروف في قوله تعالى: {يأمرهم بالمعروف} الأعراف:١٥٧. وأنت إذا تفقدت الأشياء التي انتحاها البشر منذ القدم، وأقاموا عليها قواعد المدنية البشرية، تجدها أمورا كثيرة من الصلاح والخير تُوُورِثَت من نصائح الآباء والمعلمين والمربين والرسل والحكماء والحكام العادلين حتى رسخت في البشر، مثل إغاثة الملهوف، ودفع الصائل، وحراسة القبيلة والمدينة، والتجمع في الأعياد، واتخاذ الزوجة، وكفالة الصغار، والميراث. إلا أن هذه الفضائل والصالحات ليست متساوية التفشي في الأمم والقبائل، فلذلك لم يكن للشريعة العامة غُنية عن التطرق لهذه الأمور ببيان أحكامها من وجوب أو ندب أو إباحة، وبتحديد حدودها التي تناط أحكامها بها. فالنظر إلى اختلاف الأمم والقبائل في الأحوال من أهم ما تقصده شريعة عامة، كما أنبأ عن ذلك حديث الموطأوصحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لقد هممت أن أحرّم الغِيلة (في الرضاع) لولا أن قوما من فارس يفعلونها ولا تضر أطفالهم”.
وكذلك النظر إلى اختلاف النفوس في التسرع إلى النزوع عن الصالحات عند طرو معارضها في شهواتهم، من جهة ما في الصالحات من الكلفة.كما ترى من تحريض الشريعة على التزوج، ومن إيجابها نفقة القرابة.
وأكثر ما يحتاج إليه في مقام التقرير هو حكم الإباحة لإبطال غلو المتغالين، بحملهم على مستوى السواد الأعظم من البشر الصالح، كما قال الله تعالى: {ويُحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}. فإن الطيبات تناولتها الناس وشذّ فيها بعض الأمم وبعض القبائل، فحرَّموا على أنفسهم طيبات كثيرة. وقد كان ذلك فاشيا في قبائل العرب، مثل تحريم ما تلده البَحيرة والسائبة حيا على النساء دون الرجال، وما تلده ميتا حلال للفريقين كما وصف الله تعالى بقوله: {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء} الأنعام:١٣٩، وقال: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} الأعراف:٣٢، ثم قال: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} الأعراف:٣٣. والتقرير لا يحتاج إلى القول، فقد علمت أن الاحتياج إلى القول فيه لا يكون إلا عن سبب دعا إلى القول من إبطال وهم، أو جواب سؤال، أو تحريض على التناول. وفيما عدا تلك الأسباب ونحوها، يعتبر سكوت الشارع تقريرا لما عليه الناس. فلذلك، كانت الإباحة أكثر أحكام الشريعة لأن أنواع متعلقاتها لا تنحصر، وقد تواتر هذا المعنى تواترا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته، ويشهد له ويعضده الحديث الذي رواه الدارقطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها”، ولأجل هذا، كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، لأن السؤال عن غير المشكل عبث.
فالتغيير والتقرير قد يصادفان أحوال بعض الأمم دون بعض وهو الغالب، مثل تحريم الربا، ووجوب المهر، وأداء الدية. وقد يصادفان أحوال البشر كلهم، مثل تحريم الخمر، وإبطال الوصية لوارث، وبما زاد على الثلث، وتقرير أنكحة الذين يدخلون في الإسلام.
ومن رحمة الشريعة أنها أبقت للأمم معتادها وأحوالها الخاصة، إذا لم يكن فيها استرسال على فساد. ففي الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قَسْم الجاهلية، وأيما دار أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قَسْم الإسلام”. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: “وهل ترك لنا عقيل من دار!”، يريد أن عقيل بن أبي طالب فوتها في حكم الجاهلية، فلم ينقضه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة.
* رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر