l تعد العمارة الإسلامية أحد مظاهر الحضارة الإسلامية التي ميزت التاريخ الإسلامي، ولا تزال هذه العمارة إلى الآن شاهدة على عظمة هذه الحضارة وإنسانيتها. ولم تقتصر تلك العمارة على المساجد والقصور والمنازل فقط، بل امتدت لتشمل المدارس والأربطة وحتى القلاع والحصون والأسواق، ما يدل على اهتمام الحضارة الإسلامية بكافة مناحي النشاط الإداري والاقتصادي والاجتماعي وأيضا الحربي، وجمعت العمارة الإسلامية بين مختلف أشكال الفنون الأخرى إلى الدرجة التي اعتبر اليونانيون معها أن العمارة الإسلامية هي أم الفنون.
لقد برع المسلمون في فنون العمارة بكل أشكالها؛ لأنهم فهموا نماذج العمارة في الحضارات السابقة ثم طوّروها بما يتناسب مع عقيدتهم ودينهم، ثم أبدعوا بعد ذلك نموذجا إسلاميا خاصا بهم، وظل هذا النموذج منبعا يأخذ منه الغرب، كما ظل هذا النموذج شامخا عاليا على مر العصور، يشهد بعظمة العقلية المسلمة.
الجمال صفة من صفات الخالق سبحانه وتعالى، فقد جاء في الحديث النبوي: “إن الله جميل يحب الجمال”، والله سبحانه وتعالى لم يحرم الزينة على عباده بل هي عطاء من الله لهم كما قال الله تعالى: {قُل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده}، والجمال مطلوب في البناء والعمران كما هو مطلوب في الثياب وغيرها، وجمال البناء يبدو في تناسقه وترتيبه حسب عرف الزمان والمكان ما دام أنه محمود في ذاته وغاياته.
وإن القيم الجمالية لعناصر العمارة الإسلامية تبرز أكثر في الزخارف الإسلامية المتنوعة، والتي غطت عددا كبيرا من العمائر الإسلامية المختلفة، يقول ابن الأزرق في كتابه “بدائع السلك في طبائع الملك”: “إن الدولة والملك والعمران بمنزلة الصورة والمادة، وهو الشكل الحافظ لنوعه لوجودها، وانفكاك أحدهما عن الآخر غير ممكن على ما تقرر عند الحكماء، فالدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دونها متعذر، وحينئذ، فاختلال أحدهما مستلزم لاختلال الآخر، كما أن عدمه مؤثر في عدمه”.
وبالرغم مما قيل عن العرب بأنهم قوم رحل، وأصحاب خيم ومنازل غير قارة، فإننا نجد النزوع إلى البناء والتشييد راود العربي منذ القدم. وتحدث المؤرخون عن العمارة العربية باليمن ومكة والشام وغيرها من جهات شبه الجزيرة العربية، حيث اشتهرت صنعاء بمبانيها المرتفعة، وعرفت مكة بكونها مركزا تجاريا هاما، تنطلق منها قوافل التجار شمالا وجنوبا، وتحدث المؤرخون عن قصور المناذرة بالعراق، والغساسنة بالشام.
ثم جاء الإسلام فقامت حضارته على تشجيع البناء والعمران، ففتح العرب الأمصار، ومع انتشار الإسلام في الشام والعراق ومصر وشمال إفريقيا والأندلس... ازدهر العمران الإسلامي بصورة واضحة في البلاد المفتوحة.
ومنذ بناء المسجد النبوي بالمدينة المنورة، انطلقت حركة العمران العربي الإسلامي، حيث بنيت الدور السكنية في مختلف جهات المدينة وضواحيها، ومن هذا التاريخ اعتبر المسجد هو النواة الأولى في المدينة الإسلامية، والمحور الذي تتفرع عنه المباني المختلفة: دار الإمارة، والقضاء الشرعي، والحسبة، وما إلى ذلك من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية.
وعرفت بعض المدن في العصر الأموي والعباسي ازدهارا واتساعا مثل مكة والمدينة ودمشق وحلب وقرطبة وإشبيلية، وفي فترة قصيرة من الزمن، أصبحت هذه المدن العربية الإسلامية مراكز حضارية، ومنار إشعاع فكري وحضاري بما تضمه من مساجد ومعاهد ومكاتب ومجالس العلم، وبما تقيمه من مناظرات، ودروس في مختلف مجالات المعرفة، وأصبحت المدينة الإسلامية محط أنظار التجار والعلماء والفنانين من مختلف البلاد والأقطار، وازدهرت أسواقها بمختلف أنواع البضائع النفيسة والسلع النادرة.
وقد كان من نتائج امتداد الفتوحات الإسلامية ازدهار الفن المعماري، وابتكار أنماط جديدة في فن البناء غير التي كانت معروفة من قبل، واستطاع الفن المعماري العربي أن يستفيد من التصاميم القديمة، وأن يحترم في نفس الوقت آثار الأقاليم المفتوحة، وأن يتدرج ويتطور، وأن يعمل على نقل الأنماط والأساليب المبتكرة من إقليم إلى إقليم، وكثيرا ما كان يرتبط تطور فن البناء بطبيعة الإقليم الذي نشأ فيه، مع تطوير فن استعمال المواد الموجودة.
فالتوسع في العمران عند علماء المسلمين ليس مظهرا حضاريا فحسب، بل هو أساس التقدم والازدهار في سائر مجالات الحياة: العلمية، الفنية، الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية والعسكرية.. كل هذه المرافق يجب أن ينال حظه من العمران الدال على رسوخ الملك، وعلى جدارة الدولة بالتسيير والبقاء والاستمرار.. وكلما كان العمران متينا وواسعا، وشامخا وجميلا، وفي هندسة تبهج العيون، وتأخذ بالألباب.. كلما دل ذلك على رقي الأمة، وعلى سلامة ذوقها، وأصالة حضارتها.
ولقد توفّر في العمارة والعمران الإسلامي ثلاثة عناصر أساسية: المتانة في البناء، والمنفعة، والجمالية، وهو الشرط الأساسي، لأن الله سبحانه وتعالى وصف لنا بناء السماوات والأرض، ووصف لنا الجنان وكل موجودات هذا الكون بألفاظ جمالية كالزينة والحسن والجمال والبهجة وغيرها، وشرط هذه الأوصاف والسمات أنها تسر وتبهج الناظرين وتطرب الحواس سمعا ورؤية وهمسا مباركا في النفوس.