+ -


الكلمة عنوان على مكنونات القلب، تترجم عما يحوي الصدر، وتدلل على الأصل والعقل، وقد قيل: فم العاقل ملجم، إذا هم بالكلام أحجم، وفم الجاهل مطلق، كل ما شاء أطلق. فمن مكارم الخلال ومحاسن الخصال أن يحرص المؤمن على حسن الكلام، وخاصة في المجالس، يقول ابن عباس: “أعز الناس علي جليسي الذي يتخطى الناس إلي، أما والله إن الذباب يقع عليه فيشق ذلك علي”.

اعلم، رعاك الله، أن عثرات القول طريق الندم، والمنطق الفاسد الذي لا نظام له ولا خِطام عنوان الحرمان: “إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب”، فالكلمة قد ترفع صاحبها عند الله شأوا عظيما، أو تهوي به في سخط الله مرتعا وخيما، فهي كالغيث تزيل الهم والغم وتشرح القلب، والكلمة الخبيثة كالنار تضرم الكرب وتشعل الحرب، وإذا كان هناك من كلمات تكب أصحابها في قعر جهنم على مناخرهم، فإن هناك كلمات تبتدرها الملائكة أيهم يكتبها أول فترفعها إلى الله: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}. الكلمة الطيبة لن تزال تتردد في أذن سامعها فتتلذذ بها الآذان، وتنشرح لها الصدور، وتبتهج لها القلوب، فها هي أمنا حفصة رضي الله عنها تخبر عبد الله بن عمر بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: “نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل”، فكان بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلا.

وانظر، رحمك الله، إلى الكلمة الحلوة كيف تحول صاحبها من خلق عليل رذيل إلى خلق سام رفيع، كان القعنبي رحمه الله يشرب النبيذ ويصحب الأحداث، فدعاهم يوما وقد قعد على الباب ينتظرهم، فمر شُعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث على حماره، والناس خلفه، فقال القعنبي: من هذا؟ قيل: شعبة، قال: ومن هو؟ قالوا: محدّث، فقام إليه وقال له: حدّثني، فقال له: ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك، فأشهر سكينه وقال: تحدثني أو أجرحك؟ فقال له: حدثنا منصور عن ربعي عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا لم تستح فاصنع ما شئت”، فرمى القعنبي سكينه، ورجع إلى منزله، فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب فأراقه، وقال لأمه: الساعة أصحابي يجيئون، فأدخليهم وقدمي الطعام إليهم، فإذا أكلوا فأخبريهم بما صنعت بالشراب حتى ينصرفوا، ومضى من وقته إلى المدينة، فلزم مالك بن أنس، ثم رجع إلى البصرة، وقد مات شعبة فما سمع منه غير هذا الحديث.

ونختم بهذه القصة المعبرة جدا عن آثار الكلمة الطيبة، يروى أن شيخا من المهالبة أيام البرامكة قدم البصرة في حوائج له، فلما فرغ منها انحدر إلى دجلة ومعه جارية، فلما صار في دجلة إذا بفتى على ساحل دجلة عليه جبة وبيده عكاز ومزود، فسأل الملاح أن يحمله إلى البصرة، فرقَّ المهلبي لحاله، فقال للملاح: احمله معك فحمله، فلما كان في وقت الغداء، دعا الشيخ بالسُّفرة وقال للملاح: قل للفتى ينزل إلينا فأبى، فلم يزل يطلب منه ذلك حتى نزل، فأكلوا حتى إذا فرغوا ذهب الفتى ليقوم فمنعه الشيخ المهلبي، ثم دعا بشراب، فشرب قدحا ثم سقى الجارية، ثم عرض على الفتى فأبى، وقال: وددت أن تعفيني، ثم أخرجت الجارية عودا فأخذت تغني، فقال: يا فتى، تحسن مثل هذا؟ قال: أُحسِن ما هو أحسَن من هذا، فقال: هات ما عندك، فقرأ الفتى قوله تعالى: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة}، وكان الفتى حسن الصوت، فرجَّ الشيخ بالقدح في الماء، وقال: أشهد أن هذا أحسن مما سمعت، فهل غير هذا؟ قال: نعم، {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سُرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا}، فوقعت من قلب الشيخ موقعا، فأمر بالشراب فرمى به، وأخذ العود فكسره، ثم قال: يا فتى، هل هاهنا من فرج؟ قال: نعم: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}. فصاح الشيخ صيحة خَرّ مغشيا عليه، فنظروا فإذا هو قد ذاق الموت.. والله ولي التوفيق.

*إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي