إن طوفان الأقصى المبارك عملية استراتيجية موفقة، فقد حرّكت الراكد والجامد والخامد في كل الاتجاهات، وفي كل الساحات، وعلى كل المستويات، وقد شبهه كثير من الباحثين بـ(هجوم تيت = هجوم عيد القمر الفيتنامي) الذي قام به جيش فيتنام الشعبي (الفيت كونغ) ضد القوات الهمجية الأمريكية وحلفائها في فيتنام الجنوبية في جانفي 1968م، والذي نجم عنه اختراق السفارة الأمريكية ومقرات سيادية كثيرة في سايغون عاصمة فيتنام الجنوبية.
ومعلوم أن المقاومة الفيتنامية استعملت الأنفاق في هجومها كما تستعملها المقاومة الباسلة في غزة، وقد أعقبه انتقام أمريكي وحشي إرهابي، بقصف همجي إجرامي بكل أنواع الصواريخ والأسلحة المحرمة دوليا على الشمال الفيتنامي راح ضحيته عشرات الآلاف من الأبرياء كما يحدث اليوم في غزة، ثم ماذا؟، ازدادت المقاومة الفيتنامية قوة وشدة، وازداد تلاحم شعبها معها، وكان الانتصار الباهر للضعفاء والانهزام المذل للطغيان الأمريكي، وأجمع المؤرخون والمحللون أن هذا الهجوم كان نقطة تحول أساسية في مسار الحرب، ونقطة حاسمة لتقريب موعد الانتصار.
واليوم تكرر الولايات المتحدة الأمريكية عبر وكيلها وربيبها الكيان الصهيوني ذات الخطأ الاستراتيجي في غزة، ولا عجب فقد قال الجنرال الفيتنامي جيياب: (الاستعمار تلميذ غبي!!)، والغبي يقع في نفس الأخطاء مرات ومرات، ولا يفهم الأحداث إلا بعد فوات الآوان، وهكذا الأمريكان والصهاينة سيحتاجون لسنوات لفهم ما حدث في الـ7 من أكتوبر المجيد كما قال أبو عبيدة!، وسيكون الآوان قد فاتهم آنذاك، وكتائب الله قد ازدادت قوة إن لم تكن قد انتصرت نصرا مبينا، قريبا عاجلا غير آجل: {.. متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}، {ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا}.
إنني على يقين أن الأمريكان والصهاينة ومعهم كل دول الاستكبار العالمي سيمنعها كِبرُها وطغيانها عن فهم مسار التاريخ فهما صحيحا، وسيدفعها عن القبول بالحق والخضوع لحكمه، ولكن الذي يؤرقني حقا، هو حال الأمة الإسلامية حكومات وشعوب، وخاصة النخبة المثقفة، وفي مقدمتها علماء الشرع والدعاة ورجالات الحركة الإسلامية الواعية، هل ستفهم ما حدث كما يجب؟، وهل ستفهم مسار الأحداث فهما جيدا؟، وهل ستبادر بالمراجعات اللازمة على كل الصُّعُد والمستويات وفي كل القضايا؟.
إننا مهما اختلفنا في تحليل الأحداث، وتقويمها، فإننا لن نختلف في أن المقاومة المجاهدة في غزة متقدمة على الأمة حكومات وشعوب بمراحل عدة، رغم أنها تتحرك في حيز جغرافي ضيق جدا، وتحت حصار قاتل ظالم من القريب والبعيد لسنوات طوال، وبإمكانات محدودة جدا بل قل: بدائية حقا، وبدعم ضئيل قليل لا يكاد يذكر!، وقد تفاجأت الأمة العربية والإسلامية بكل مكوناتها بطوفان الأقصى كما تفاجأ الصهاينة وأعداؤنا أجمعون!؛ لأنها كانت تعيش في بُلَهْنِيَةٍ ولم تر شهاب الحرب إذ سطعا!، وأصابها الوهن فأحبت الدنيا وكرهت الموت!، وسيطرت عليها الهشاشة: الهشاشة الإيمانية، والهشاشة الفكرية، والهشاشة النفسية، والهشاشة المجتمعية، والهشاشة السياسية، وهشاشة الإرادة.. وأخلدت إلى الرتابة في كل مناحي النشاط والعمل، تكرّر ذات الأعمال وتبذل ذات البذل بلا تجديد ولا إبداع، ولا تقويم ولا تحسين، وتظن أنها تحسن صنعا!!.
إنني أرى أن من أهم نتائج طوفان الأقصى، أنه وضع الأمة على المحك، وأحرج كل المتحركين فيها، وحاملي شعارات الإصلاح والتغيير والدعوة... إلخ، إذ لم يكونوا في مستواها قطعا، وفتح أبواب المراجعات لها على مصارعيها، فطوفان الأقصى هو صرخة مدوية لكل فرد من أفراد الأمة ما زال فيه عرق الإيمان ينبض أن يراجع نفسه ويصحح وضعه، ويسائل نفسه عن واجباته تجاه أمته ودينه؟. صرخة مدوية لكل عالم وداعية ما زال يؤمن أنه لا صلاح لهذا الأمة ولا عز إلا في ظلال الإيمان أن يراجع نفسه ويصحح وضعه، ويسائل نفسه عن واجباته تجاه أمته ودينه، وتجاه الأمانة التي حمّله الله إياها، ويراجع علمه وفكره هل في المستوى المطلوب؟ وهل هو في تجدد دائم أم هو خامل نائم؟ وهل هو في خدمة أمته ودينه أم في خدمة نفسه وهواه؟، صرخة مدوية لكل فرد من أفراد النخبة مهما كان تخصصه وعمله، أن يراجع نفسه ويصحح وضعه، ويسائل نفسه هو في المستوى المرجو منه أم أنه منفوخ الألقاب فقط؟، وهل هو عنصر نافع في مجتمعه أم غثاء لا يسمن ولا يغني؟، وهل هو منسجم مع هوينه ومرجعيته أم مجرد ببغاء ناقل للفكر الغربي ونجاسات الحداثيين بلسانه العربي (أو العامي!) ليس غير؟. صرخة مدوية لكل جمعية أو جماعة أو منظمة أو مؤسسة أو مدرسة أو ناد، أن تراجع نفسها وتصحح وضعها، بأن تحرص على التميز، والخروج من أوهام الإنجاز؟، في الوقت الذي هي تقلد بعضها بعضا، وتكرر بعضها بعضا، ولا تنجز إلا بمستويات ضعيفة جدا، وتغطي ذلك الفشل في صور إنجاز بالفخفخة الفارغة، والشخشخة الباردة، والصور المتكاثرة، والضجيج في مواقع التواصل الاجتماعي، وكل ذلك لا يغني من الحق شيئا.
إن طوفان الأقصى أحدث موجات من المراجعات عند الغربيين، على المستوى الفردي، ومن نتائجه إسلام عشرات منهم وما يزال طوفان إسلامهم مستمرا والحمد لله، وعلى مستوى الأنظمة حيث تراجعت كثير منها عن مواقفها المتصهينة إلى مواقف أقلّ حدة نفاقا أو خضوعا للضغط الشعبي، وعلى مستوى المجتمعات، وأبرز مظاهره طوفان الجامعات المتزايد، والذي هو نتاج مراجعات هزت النخب الأكاديمية في الغرب التي كانت مرتهنة للوبي الصهيوني.. فطوفان الأقصى في حقيقة الأمر هو دعوة للأمة كلها أن تراجع نفسها، وتتوب لربها، {وتوبوا إلى الله جميعا أيُّهَ المؤمنون لعلكم تفلحون}، توبة من الذنوب الإيمانية، والذنوب الحضارية على السواء. باختصار نحتاج: طوفان من المراجعات!، فهل من مُراجع!.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة