العلاقة بين الأب وأبنائه ذات مكانة وأهمية خاصة، وها هو القرآن العظيم يعرض علينا مشهدا مهيبا لأب حكيم ومرب عظيم، يجلس مع ابنه جلسة صفاء روحية، ليوصيه فيها بأعظم وصية، بأسلوب شيق بديع رحيم.
روي أن رجلا جاء إلى لقمان فقال له: ألست أنت الذي ترعى الغنم في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم، قال: فما بلغ بك ما عرفت؟ فقال: غضي بصري، وكف لساني، وقولي بصدق، ووفائي بعهدي، وإكرامي لضيفي، وحفظي لجاري، وتركي ما لا يعنيني، فذلك الذي صيرني إلى ما ترى.
بدأ سياق الآيات بالثناء على لقمان، وذكر ما وهبه الله من الحكمة، وما وفقه لسديد القول ورشيد العمل: {ولقد ءاتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله}. لقد أمره ربه بشكر النعم الحسية والمعنوية، ومن أعظمها الإيمان والعلم والحكمة، ثم ساق الله تعالى وصايا لقمان العظيمة لابنه، وهي تمثل أصولا لمنهج التربية في الإسلام، قُدِّمت بكلمات رقيقة وألفاظ عذبة: {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله}. أمره بالخير ونهاه عن الشر، وناداه بنداء الحنان والعطف والشفقة، فقد ردد عليه (يا بني) مرات وكرات، ليفتح بها قلبه ويستدعي بها مشاعره ويهيئه لحسن الاستفادة من الموعظة، بعيدا عن الغلظة والشدة والعنف.
{يا بني لا تشرك بالله} إنها الوصية العظيمة الكبرى بتحقيق التوحيد والابتعاد عن كل أنواع الشرك وصوره، ثم ثنى بعد ذلك يوصي بأعظم حقوق الخلق، وهو حق الوالدين: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن، وفصاله في عامين}. ذكر الله تعالى في شأن الأم ثلاث مراتب كلها خاصة بالأم: الأمومة بكل ما تحمله من معان ودلالات، ثم الحمل وما يلحق به من مشاق وأوجاع، ثم الرضاعة وما فيها من ضعف وجهد، وكل هذه المراتب جميل من الأم يستوجب من الابن حفظه، ثم أكد الله تعالى حق الوالدين حتى ولو كانا مشركين: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم، فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا}، فإذا كانت المصاحبة بالمعروف واجبة للأبوين الكافرين، فكيف بالأبوين المسلمين الصالحين؟! ويتواصل سياق الآيات مع الوصية الثالثة: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله}. يؤكد لقمان قضية عقدية مهمة، وهي الصلة بالله ومراقبته في السر والعلن، وهذه الوصية فيها لفتة كريمة للآباء في زرع المراقبة الذاتية في نفوس الأبناء وأن يخوفوهم بالله ويدعوهم لمراقبته.
ثم انتقل بعد العقيدة إلى العبادة فأمر ولده بإقامة عمود الإسلام وهو الصلاة، بالمحافظة على أركانها وواجباتها، فحري بالوالدين أن يهتما بهذا الجانب، وهو تعويد الطفل على الصلاة في سن مبكرة. وبعد الصلاة جاءت الوصية الخامسة في السلوك الاجتماعي وإصلاح الآخرين بعد إصلاح النفس: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور} أمره بالإصلاح ودعوة الآخرين وأوصاه مع هذا كله بملازمة الصبر على ما يناله من أذى، لأن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فلا بد أن يناله أذى الناس، ومن ثمَّ فهو مأمور بالصبر على أذاهم: {إن ذلك من عزم الأمور} أي: من الأمور التي أمر الله بها على وجه العزم والتأكيد.
وأخيرا أوصى لقمان ولده بوصية أخلاقية جامعة فقال: {ولا تصعر خدك للناس} نهاه عن الكبر، وأصل الصَّعَر: داء يصيب الإبل فتلف أعناقها، قال: {ولا تمش في الأرض مرحا} أي: فخرا وخيلاء: {إن الله لا يحب كل مختال فخور}، ثم أوصاه بالأدب في المشي والكلام فقال: {واقصد في مشيك} أي: وسطا بين البطء والإسراع: {واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} أي: اخفض من صوتك في كلامك، ولا ترفعه دون حاجة، لأن أبشع الأصوات وأنكرها أصوات الحمير. فوصايا لقمان لابنه تشير إلى قضية هامة في المجتمع، وهي القرب من الأبناء ووعظهم وإرشادهم، حتى لا يتركوا للطرقات والشوارع تنهش أخلاقهم، ورفاق السوء والشلل الفاسدة تنخر في سلوكياتهم وتصرفاتهم. وإلى الله المشتكى.
* إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي