الكيان في "مأزق استراتيجي" وعزلة دولية

+ -

يجد الكيان الصهيوني نفسه في "مأزق إستراتيجي" على خلفية عدوانه على غزة الذي يمتد لـ171 يوما، ويعد أطول مواجهات عسكرية يخوضها، دون أن يحقق أي "انتصار" حاسم أمام مقاومة فلسطينية تدير المواجهة رغم عدم التكافؤ في موازين القوى، وحصار مطبق على قطاع غزة وسياسة تجويع وحرب إبادة وحرب تدمير ممنهجة يمارسها الكيان.

تبرز عدة دلالات ومؤشرات على طبيعة "المأزق الإستراتيجي" الذي يقع فيه الكيان الصهيوني، رغم الدعم الذي يلقاه من قبل الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وهو دعم متعدد الأبعاد سياسيا وعسكريا.

وفيما يتم الترويج لخيارات "اليوم التالي" للحرب، غربيا ومن قبل الكيان، والتي تختزل الإيحاء بتحقيق الكيان لأهدافه المعلنة، ممثلة في القضاء على المقاومة وتحييد قدراتها العسكرية، من خلال تنفيذ خطة تقوم على "أربعة أركان" للتعامل مع غزة بعد انتهاء الحرب، والتي تتضمن بداية القضاء على المقاومة وإبعاد حماس بالخصوص عن حكم قطاع غزة، موازاة مع سعي الكيان للسيطرة الأمنية الكاملة على القطاع، بما في ذلك تفتيش البضائع التي تدخل إلى المنطقة وتخرج منها، مقابل إقامة مرفأ أو ميناء، تحت الإشراف الصهيوني الغربي، فيما تتولى قوة متعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة تضم شركاء إقليميين وأوروبيين، مسؤولية إعادة إعمار قطاع غزة.

وفيما يتعمد الكيان الإمعان في مواصلة عدوانه والتلويح بحملة عسكرية على رفح، فضلا عن اعتماد أسلوب التعطيل والمماطلة بشأن مفاوضات وقف إطلاق النار، إلا أن سيرورة الحرب على غزة، تقود إلى "مأزق إستراتيجي" للاحتلال الصهيوني في المحصلة.

فعامل الزمن لا يخدم الكيان الصهيوني، حيث أضحت تخوض أطول حرب عدوانية في تاريخها، مع مرور 171 يوما، دون أن تنجح في تحقيق حسم ميداني، إذ أن طبيعة المواجهة التي تماثل "الحروب اللامتوازية" غير التقليدية، لا ترجح نصرا صهيونيا.

في نفس السياق، فإن التكلفة المتزايدة لأعباء الحرب على غزة، رغم الدعم المالي والعسكري التي يحظى به الكيان، يشكل عاملا ضاغطا، ففي جانفي 2024 اعترف الكيان عبر صحيفة "يديعوت أحرانوت" أنه بعد مرور ثلاثة أشهر على الحرب على غزة، فإن تكلفة الحرب على القطاع بلغت 60 مليار دولار، دون أن تحقق أيا من أهدافها المعلنة، وفي منتصف جانفي دائما، صوّت أعضاء مجلس الوزراء الصهيوني المصغّر (الكابينت) على ميزانية 2024، بزيادة 55 مليار شيكل (15 مليار دولار) كمبلغ إضافي للإنفاق على الحرب وشمل التمويل الإضافي، إلى جانب الميزانية العسكرية، تعويضات للمتأثرين بالحرب وزيادة في ميزانية الرعاية الصحية والشرطة، ويضاف إلى ذلك الخسائر الاقتصادية، حيث عرف مستوى الإنتاج انهيارا بأكثر من 19.4 في المائة خلال الثلاثي الأخير من 2023، ويواصل مع بداية 2024 الاقتصاد الصهيوني خسائره، حيث تكشف تقديرات إحصائية أن الخسائر الإجمالية الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة للاحتلال في حربه التي يشنها على غزة وصلت حوالي 165 مليار دولار، ناهيك عن الآثار التي مست قطاعات مثل الزراعة والسياحة.

ونتيجة إفراغ قطاعات عديدة من العمالة ليصبحوا جنود احتياط في جيش الإحتلال، وعددهم يزيد على 300 ألف من الموظفين العاملين في مختلف القطاعات الحيوية، أهمها قطاع التكنولوجيا الذي يزود إسرائيل بنصف صادراته، فإن القطاع لحقت به خسائر تفوق 20 مليار دولار، ناهيك عن تعطل الاستثمارات الخارجية، ما تسبب في خسائر كبيرة وصلت تقديراتها الأولية إلى أكثر من 20 مليار دولار، وهو ما يحتاج لوقت طويل للتعافي، فضلاً عن توقف عجلة القطاع السياحي الذي تضرر، وهذا القطاع كان يدر قرابة 25 مليار دولار على الخزينة الصهيونية سنوياً، يضاف إلى ذلك إيواء وتعويض العائلات المهجرة نتيجة الحرب بغلاف غزة وأيضا بالجبهة الشمالية وفي المناطق الحدودية مع لبنان، والذين يقدر عددهم بمليون مستوطن، يعيشون حالياً بالفنادق.

وعلى مستوى آخر، تبرز التكلفة العسكرية، إذ أنه رغم اعتماد الكيان للتعتيم ولسياسة فرض الرقابة العسكرية، فإن الخسائر البشرية التي لحقت بالكيان، غير مسبوقة من الناحية البشرية والمادية أيضا، فما يتم الإعلان عنه من الكيان جزء من الخسائر العسكرية الحقيقية والفعلية، لعوامل عدة منها توظيف المرتزقة والصهاينة من الدرجة الثانية "من غير الأشنكيناز وحتى الفارديم"، فالكلفة التشغيلية لهذه الحرب تصل تقريبا 280 مليون دولار يومياً أي ما يعادل 47 مليار دولار في 170 يوم من المعركة، فضلاً عن تكلفة الآليات العسكرية التي أعلنت المقاومة عن تدميرها، والتي تزيد على 1200 مدرعة ودبابة وآلية، وهذه خسائر عسكرية لم يعلن الاحتلال عنها كلية، وتبرز الخسائر التي مست أسلحة "نوعية" على غرار دبابة "الميركافاة" من الجيل الرابع التي فقد الصهاينة منها أكثر من ثلث الترسانة، علما أن قيمة الميركافاة يفوق 6 ملايين دولار، يضاف إلى ذلك استنزاف الأنظمة الصاروخية "القبة الحديدية"، جراء الرشقات الصاروخية المتتالية سواء من غزة، أو حتى من الجبهة الشمالية وجبهات أخرى لا سيما "اليمن".

كما يضاف إلى ذلك الخسائر البشرية، رغم تكتم الاحتلال عن جزء كبير منها، حيث تخضع الإعلانات عن أي قتلى أو عمليات المقاومة إلى مقص الرقابة العسكرية أو منع من النشر، وهو قرار ملزم يتم بموجبه منع نشر أي معلومات عن القتلى سواء من وسائل الإعلام أو من المؤسسات الرسمية أو من المستوطنين، ومع ذلك فإن ثغرات كشفت عن حجم الخسائر التي تتكتم عليها الحكومة اليمينية لبنيامين نتنياهو، ففي ديسمبر 2023 كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت عبر تقرير عن خسائر جيش الاحتلال في الحرب على غزة، مشيرة إلى أن عدد الجنود الجرحى بلغ نحو 5 آلاف من بينهم ألفان على الأقل أصبحوا في عداد المعاقين، بينما كشفت هآرتس أن ثمة فجوة كبيرة بين عدد الجنود الجرحى الذي يعلنه الجيش الإسرائيلي وما تظهره سجلات المستشفيات، مشيرة إلى أن العدد الذي أعلن عنه الجيش الصهيوني هو 1600 جريح، بينما تظهر القوائم التي أعلنت عنها المستشفيات أنها استقبلت 4591 جريحا خلال الفترة نفسها، بينما فاق عدد القتلى حسب معطيات متقاطعة 1500 قتيل، وما يلاحظ أن خسائر جيش الاحتلال مست فرق نخبته على غرار "غولاني" و"ناحال"، وتتعمد الحكومة اليمينية إخفاء الخسائر في مسعى للحفاظ على معنويات الجنود على خط المواجهة من الانهيار وتخفيف وقع الصدمة على الجمهور داخل الكيان وعدم إثارة الرأي العام ضد القيادة السياسية والأمنية، وما يترتب عن ذلك من ضغط سياسي وشعبي لإنهاء الحرب.

ومع ذلك، فإن إدارة حكومة الكيان لملف الأسرى والضغط الشعبي داخل الكيان المتنامي، إلى جانب التمرد المسجل لا سيما في أوساط "الحريديم" ورفضهم التجنيد، فضلا عن فشل منظومة الدعاية الصهيونية في تلميع صورة الكيان الني تحولت إلى دولة تمارس الإبادة الجماعية، أضيف إليها توسع رقعة المواجهة، بداية بدخول اليمن على خط قطع خطوط إمداد الكيان من البحر الأحمر، واستهداف الكيان بالجبهة الشمالية من قبل حزب الله، فضلا عن فتح جبهات من العراق وحتى الجولان، كل ذلك يوضح إمكانية مواجهة الكيان حرب استنزاف، فالمأزق الإستراتيجي ليس فقط مع جبهتي غزة وجنوب لبنان وإنما أيضا مع الجبهة الداخلية.

 

كلمات دلالية: