يقول الحق سبحانه: “ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا”، والمعنى ألم ينته علمك يا محمد إلى حال هؤلاء اليهود الذين يمدحون أنفسهم ويثنون عليها مختالين، مع ما هم عليه من الكفر وسوء الأخلاق؟ إن كنت لم تعلم أحوالهم أو لم تنظر إليهم، فها نحن نكشف لك عن خباياهم لتتعجب من سوء أعمالهم، وليتعجّب منهم كل عاقل. وقوله: “بل الله يزكي من يشاء” إبطال لمعتقدهم بإثبات ضده، وهو أن التزكية شهادة من الله، ولا ينفع أحدا أن يزكي نفسه وإعلام منه سبحانه بأن تزكيته هي التي يعتدّ بها لا تزكية غيره.
لقد جاءت نصوص الوحي حافلة ببيان أهمية تزكية النفس، وذلك لما لها من مكانة عالية ومنزلة رفيعة: “ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها”، كما أن تزكية النفس ثمرة العبادة وخلاصة نتائجها، فليست العبادة في حركات ركوع أو سجود، أو في مجرد التلفظ بألفاظ، أو إرهاق للنفس بالصوم، أو إجهاد للبدن في الحج، وإنما ما وراء ذلك كله، مما ينسكب في القلب ويملأ النفس من الروحانية.
فمن فوائد الصدقة أنها تطهّر النفوس من رذائل الشح والبخل والطمع، وتزكي القلوب من الأخلاق الذميمة، وتنمي الأموال والحسنات: “لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم”، فالله تعالى لن يصله لحم هذه الأنعام ودماؤها، ولكن الذي يصل إليه سبحانه ويثيبنا عليه هو تقوانا ومراقبتنا له وخوفنا منه، واستقامتنا على أمره، فكل عمل خلاصته وثمرته هي هذه النفس وتزكيتها.
في مدارج السالكين يقـول ابن القيم رحمه الله: (إنما بعث الله الرسل لهذه التزكية وولاهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة وتعليما وبيانا وإرشادا، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم، قال الله تعالى: “هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين”، وقال: “كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون”، وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجئ بها الرسل، فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم).
ومن هنا، فإن من مقاصد الصوم تزكية النفوس وتهذيبها، وتنقيتها من الأخلاق الرذيلة: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”، جاءت هذه الجملة التعليلة لبيان حكمة مشروعية الصيام، فكأنه سبحانه يقول لعباده المؤمنين: فرضنا عليكم الصيام كما فرضناه على الذين من قبلكم، لعلكم بأدائكم لهذه الفريضة تنالون درجة التقوى.
إننا بحاجة إلى تزكية نفوسنا، خاصة ونحن في زمن كثرت فيه الشبهات والشهوات، ولذلك كان الصالحون يستثمرون الأوقات والطاعات في تزكية نفوسهم، فهذا الأحنف بن قيس جلس يوما فجال بخاطره قوله تعالى: “لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون” فقال: عليّ بالمصحف لألتمس ذكري، حتى أعلم من أنا وما هي أعمالي، فمر بقوم قال تعالى فيهم: “كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون”، ومر بقوم قال الله فيهم: “الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس”، ومر بقوم قيل فيهم: “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون”، فقال: اللهم لست أعرف نفسي في هؤلاء، ثم أخذ يقرأ فمر بقوم يقال لهم: “ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين” فقال: اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء، حتى مر على قوم قال الله فيهم: “وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم” فقال: اللهم إني من هؤلاء.