في صحيح البخاري من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم، فقال: “اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوتَانٌ (الموت الكثير الوقوع) يأخذ فيكم كَقُعَاصِ الغنم (سيلان يصيب الدواب فتموت)، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مئة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا”.
في هذا الحديث إخبار منه صلّى الله عليه وسلم عن حوادث تقع بعده، وقد وقع بعضها، وسيقع الباقي قطعا، أولها: موته صلّى الله عليه وسلم، وقد كان ذلك من أعظم المصائب التي ابتلي بها المسلمون، ولن يبتلوا بمصيبة أعظم من وفاته، فعند الترمذي من حديث أنس قال: “لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه، أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن رسول الله الأيدي، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا”. وثاني الأمور: فتح بيت المقدس، ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه تم فتح بيت المقدس (16هـ)، فقد ذهب عمر بنفسه وصالح أهلها وفتحها، وطهرها من اليهود والنصارى، وبنى بها مسجدا في قِبلة بيت المقدس. وثالثها: موت يصيب الأمة كَقُعَاصِ الغنم، قال الحافظ ابن حجر: يقال إن هذه الآية ظهرت في طاعون عمواس في خلافة عمر، وكان ذلك بعد فتح بيت المقدس، ففي سنة (18هـ) وقع طاعون عمواس في بلاد الشام، فمات فيه خلق كثير من الصحابة رضي الله عنهم ومن غيرهم. والأمر الرابع: استفاضة المال حتى يُعطى الرجل مئة دينار فيظل ساخطا، وقد تحقق كثير مما أخبرنا به الصادق صلّى الله عليه وسلم، فكثر المال في عهد الصحابة بسبب ما وقع من الفتوح، ثم فاض المال في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فكان الرجل يعرض المال للصدقة فلا يجد من يقبله، كما يكثر المال في آخر الزمان: “لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض، حتى يهم رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي به”. وخامسها: فتنة لا تدع بيتا من العرب إلا دخلته، أما تخصيص العرب هنا فلأن الخطاب خطاب إخبار يخص المخاطَبين، وليس خطاب أحكام يعم المكلَّفين، وعلى هذا أكثر أحاديث الفتن، إلا ما جاء النص بوقوعه خارج جزيرة العرب، وهذه الفتنة تقع قبل الملحمة الكبرى. وأخيرا: قوله صلّى الله عليه وسلم: “ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر”، أما بنو الأصفر فهم الروم، والخطاب أيضا هنا يخص المخاطَبين وهم العرب، ولعل هذه الهدنة المذكورة هنا أنها الصلح المذكور في حديث ذي مخبر عند أبي داود عن جبير بن نُفير: انطلق بنا إلى ذي مخبر رجل من أصحاب النبي، فأتيناه فسأله جبير عن الهدنة؟ فقال: سمعت رسول الله يقول: “ستصالحون الروم صلحا آمنا، فتغزون أنتم وهم عدوا من وراءكم، فتُنصرون وتَغنمون وتَسْلَمُونَ (من القتل والجرح) ثم ترجعون، حتى تنزلوا بمرج ذي تلول (أرض واسعة ذات نبات كثير)، فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب فيقول: غلب الصليب فيغضب رجل من المسلمين فيدقه، فعند ذلك تغدر الروم وتجمع للملحمة”، وعند مسلم: “لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق (موضعان بالقرب من حلب)، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سَبَوْا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلوهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا، ويُقتل ثلثُهم أفضلُ الشهداء عند الله، ويَفتتح الثلث لا يُفتنون أبدا، فيَفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد علَّقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلَفكم في أهليكم، فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج، فبينما هم يُعِدُّون للقتال، يُسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم فأَمَّهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته”.. والله الموفق.
*إمام مسجد عمر بن الخطاب، بن غازي، براقي