من أكثر التسميات تداولا في العقد الأخير تسمية الذباب الالكتروني، وهي تلك الجحافل المجندة من المرتزقة، الذين يستعملون حسابات مأجورة لجهة ما: سلطة سياسية أو تنظيمات للتسويق لتوجهاتها أو محاربة وتشويه خصومها، وهي تسمية معبرة ودقيقة، فالذباب في العالم الواقعي مزعج بطنينه وإلحاحه، والذباب قذر يُعاف، والذباب لا يقع إلا على العفن والجراح، وكذلكم الذباب الالكتروني في العالم الافتراضي مزعج، ملحاح في طنينه، وقذر مكلف بمهام قذرة، ولا يثير إلا القضايا العفنة، ولا ينكأ إلا الجراح المؤلمة.
وهذه التسمية الذكية مسبوقة، فقد سبق إلى مثلها أديب العربية والإسلام اللوذعي مصطفى صادق الرافعي رحمه الله حين سمى الرديء من الصحافيين بالذباب، وذلك قوله: “إن الذّباب هنا يخرج من المطبعة لا من الطبيعة، فأكثر القول في هذه الجرائد حشرات من الألفاظ، منها: ما يستقذر، وما تنقلب له النفس، وما فيه العدوى، وما فيه الضرر... فإن كثيرا من كلام الصحف لو مسخه الله شيئا غير الحروف المطبعية، لطار كله ذبابا على وجوه القراء!”. هذا في زمن الرافعي وهو زمن النهضة الأدبية، وقد ساء الحال في زمننا إلى درجة ما كان يتصورها الرافعي ولا غيره آنذاك، والله المستعان.
كما تكلم الرافعي رحمه الله تعالى عن الذباب السياسي، فقال: “كان أعداؤنا يحسبوننا ذبابا سياسيا لا شأن له إلا بفضلات السياسة”، وكم في واقعنا السياسي من ذباب سياسي؟!، ولو مسخ الله تعالى أكثر السياسيين شيئا غير البشر، لطار كله ذبابا في الأجواء إلا قليلا قليلا!!.
إن الذباب كما نعلم لا ينغلق عليه مكان، ومهما اخترع البشر من مبيدات وأجهزة لمحاربته فهو باق يتحداهم ويزعجهم، ولكن يفترض أن فضاء الدعوة إلى الله بطهره ونقائه لا يستهوي الذباب، فلا فضلات هنالك ولا جراح متعفنة، بيد أن الواقع الأسيف يقول غير ذلك، فقد صم آذاننا طنين الذباب الدعوي، وقد غطى منظر الدعوة المبهج أسراب من الذباب الدعوي، وقد غشيَ فضاءات الدعوة الطاهرة جيوش من الذباب الدعوي.
هذا الذباب الدعوي أصناف عدة، أهمها صنفان: الصنف الأول هم الرويبضة، الذين جاء فيهم الحديث الشهير، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدق فيها الكاذب، ويُكذب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرّويبضة»، قيل: وما الرّويبضة؟، قال: «الرجل التافه في أمر العامة» رواه ابن ماجه، وفي رواية لأحمد: قيل: وما الرُّويبضة؟، قال: «السفيه يتكلم في أمر العامة»، وفي رواية أخرى له أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه:...قيل: وما الرّويبضة؟ قال: «الفُويسق يتكلم في أمر العامة»، وأمر هؤلاء واضح وظاهر، إذ هناك الكثير من التافهين والسفهاء والفساق من يتكلم في العالم الواقعي والعالم الافتراضي في الأمور العامة التي تهم عامة الناس، في مختلف جوانب الحياة، وخاصة في قضايا الدين ومسائله، التي صارت كلأ مباحا منذ عقود لكل من هبّ ودبّ، حتى صار بعض من لا يصلي ولا يصوم يفتي!، وبعض الحمقى والجهال ممن لا أهلية له للفهم أصلا يفهم الناس دين الله بجرأة كبيرة وجهل أكبر!، وبعض العلمانيين والحداثيين يُغلّطون علماء الإسلام منذ العهد الأول إلى زماننا هذا، ويأتون بفهوم جديدة للآيات والأحاديث ومسائل الدين، لا أضحك منها إلا لغتهم المتهالكة!.
والصنف الثاني هو المنافق العليم اللسان، فعن عمر بن الخطاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافقٍ عليم اللسان» رواه أحمد وابن حبان، وهو حديث صحيح. عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: «حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل منافق عليم اللسان» رواه البزار، ورواه أبو يعلى في مسنده من كلام عمر رضي الله عنه، عن الأحنف بن قيس، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كنا نتحدث أن ما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم اللسان»، وعليم اللسان هذه كلمة عميقة ذات دلالة قوية تصدق على الذباب الدعوي الذي ابتلينا به، ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم حصر نسبة العلم لهذا المنافق في لسانه، إيماء لفراغ قلبه منه، فهو مجرد كلمات محفوظات ومعلومات مكنوزات لم ينتفع بها، يأكل بها الدنيا ويمزق دينه، قال الإمام المناوي رحمه الله: “أَي كثير علم اللسان، جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حِرفَة، يتأكّل بها، وأُبهة يتعزّز بها، يدعو الناس إلى الله، ويفرّ هو منه”. وهذا أصدق ما يصدق على الذباب الدعوي، الذي من أبرز نماذجه هؤلاء [المشايخ المتصهينين] الذين نصبوا أنفسهم لمؤازرة الصهاينة ضد المجاهدين من القسام والجهاد وغيرهم، تشويها لهم، وطعنا في عقيدتهم، وشيطنة لانتمائهم، وتشويشا على العامة، وإثارة للشبهات حول الجهاد والمقاومة وما تعلق بها من جهاد مدني خاصة، وقد استمعت لأحد هؤلاء الذباب الدعوي وهو يرغي ويزبد وينافح من أجل إبطال شرعية المقاطعة الاقتصادية، التي قصمت ظهور الشركات الصهيونية والغربية الداعمة لها، مموها بكلام الشرع، ومغالطا في المفاهيم، لاويًّا أعناق النصوص، نصرة للصهاينة وللحكام الخونة من المطبعين، فما تراءى لي إلا ذبابة طنانة اقتحمت فضاء الدعوة الطاهر؛ لتلوثه بفضلات الأفكار، وقذورات الآراء، ونجس القول وضال الفتاوى!!، وهيهات هيهات، سيفضح هؤلاء الذباب الدعوي، وسينفون من فضاء الدعوة كما ينفي الكير خبث الحديد.
* إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة