جاء الإسلام ليلبي حاجيات الناس في المعاش ويحقق لهم رغباتهم النفسية والبشرية، سواء من جانب مصالح الروح أو الجسم، فأباح لهم الكسب والانتفاع من الحلال الطيب، يقول الله تعالى في خطاب موجه للبشرية: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}. لذا، اهتمت الشريعة بالمال وطرق كسبه اهتماما كبيرا، اهتمت بتبيين حقيقته والتبصير به، وحذرت كثيرا من فتنته والانحراف به، ورسمت الخطوط السليمة لطرق كسبه، والقنوات الصحيحة لإنفاقه وصرفه، وخوّفت وأوعدت من أكل أموال الناس بالباطل.
إن الإنسان سيحاسب على ماله لا محالة، من أين اكتسبه وفيما أنفقه، كما قال صلى الله عليه وسلم: “لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع... وذكر منها: وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه”. ولذا، حرِص الإسلام على التوجيه الصريح والإرشاد الجلي حتى يكون المسلم حريصا أشدّ الحرص على تنقية مكاسبِه من كل كسب خبيث أو مال محرم: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}. غير أن بعض المسلمين استهواه حب المال وجمعه حتى زلّت به القدم، ومالت به النفس الأمّارة بالسوء، فراح يجمع الدنيا بكلِ طريق، ويستكثر منها بأيِ سبيل، ومن أي وجه جاءت.. الحلال عندهم ما حل في أيديهم، ووصل إليهم بأي وسيلة، والحرام هو ما حرموا منه ولم يستطيعوا الوصول إليه، حتى صدق على الكثيرينِ إخبار المصطفى بقولِه: “ليأتينّ على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن الحلال أم من الحرام”.
ومن صور المال الحرام أخذ أموال الناس بقصد السلف والدين، مع إضمار النيّة بعدم رده وسداده، أو التهاون في ذلك، فهذا هو الظلم والعدوان، والتعدي على حرمات الواحد الديّان، قال الله المنان: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله”.
إن أكل المال بمثل هذه الصورة من صور المال الحرام هو ظلم وتعدٍّ على الأموال المعصومة، فمن كانت لديه أموال لأناس أسدوا له معروفا وقدموا له إحسانا، فعليه أن يرد المال لأصحابه، والإحسان إحسانا، يقول الله جلّ وعلا: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}، وقال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}.
لقد نسي كثير من الناس أن المال الحرام مستخبث الأصول، ممحوق البركة والمحصول، وأنه وبال على الفرد وعلى الأمة، حين يكسبه الفرد من ربا أو رشوة أو ظلم أو غش أو أكل لأموال الناس بالباطل.. وإن مما نشكوه إلى الله في زماننا انتشار المكاسب المحرّمة، والأموال الخبيثة، ومجاهرة الناس في طلبها والسعي في تحصيلها؛ حتى شاع ذلك وانتشر وألفه الكثير.. لقد نسي هؤلاء جميعا أو تناسوا أن المال الحرام شر الرزق، وأخبث الكسب، وأسوأ العمل، وزاد صاحبه إلى النار، وأن المكاسب المحرّمة ذات عواقب وخيمة وآثار سيئة عظيمة على الفرد والأمة. ومن عواقبه أنه مانع لقبول العمل والصدقة، قال ابن عمر: من صلّى في ثوب بعشرة دراهم فيها درهم حرام، لم يقبل الله له صلاة ما دام يصلي فيه، وهو سبب رد الدعاء. روي أن سعدا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: سل الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال: “يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين صباحا، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به”.
إن للمكاسب المحرّمة آثارا سيئة على الفرد والمجتمع، فإنها تضعف الديانة، وتعمي البصيرة، ومن أسباب محق البركة في الأرزاق، وحلول المصائب والرزايا، وحصول الأزمات المالية المستحكمة والبطالة المتفشية، وانتشار الإحن والشحناء والعداء والبغضاء، وهو سبب العذاب في الآخرة. عن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إن هذا المال خضرة حلوة، من أصابه بحقه بورِك له فيه، ورُب متخوض فيما شاءت به نفسه من مال الله ورسولِه ليس له يوم القيامة إلا النار”.
المال الحرام شؤم ووبال على صاحبه وضرر على جامعه وكاسبه؛ إن أنفقه صاحبه في بر لم يقبل، وإن بذله في نفع لم يشكر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار”.
لذا، يجب علينا التحري والتثبت في كسب المال كما كان حال الصحابة والأوّلين، قال عمر رضي الله عنه: كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام، وذلك امتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه”.