عند الشيخين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار”، قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله: “لله أرحم بعباده من هذه بولدها”.
الرحمة خلق عظيم، أُوتيه السعداء، وحُرمه الأشقياء، فما أشد افتقار الناس إليه، الرحمة الخلق الذي لا يمكن أن يرى البشر أعظم منه فيما بينهم: «جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها، خشية أن تصيبه». رحمة الله تتجلى في كل شيء، تتجلى في إيجاد البشر وخلقهم في أحسن تقويم، وفي نشأتهم وتكريمهم وتفضيلهم على كثير ممن خلق تفضيلا، تتجلى في تسخيره لهم كلما في هذا الكون العظيم من النعم، تتجلى في تعليم الإنسان ما لم يعلم، تتجلى في إنزال القرآن العظيم، تتجلى في إرسال المصطفى للعالمين: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}.
ورحمة الله سبحانه تتجلى في إنزال الغيث: {فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير}، وتتجلى في تجاوزه عن المذنبين المستغفرين، فعند الطبراني وصححه الحافظ ابن حجر: أن شيخا كبيرا هرما، قد سقط حاجباه على عينيه، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مدعم على عصا؛ أي: متكئ على عصا، حتى قام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها، لم يترك داجة ولا حاجة إلا أتاها، لو قسمت خطيئته على أهل الأرض لأوبقتهم (لأهلكتهم) أله من توبة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “هل أسلمت”؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قال: “تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك كلهن خيرات”، قال: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟ قال: “نعم، وغدراتك وفجراتك”، فقال: الله أكبر، الله أكبر، فلم يزل يردد: الله أكبر، حتى توارى عن الأنظار.
واعلم رعاك الله أن ديننا كله رحمة: “لن تؤمنوا حتى تراحموا”، قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم، قال: “إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة الناس رحمة العامة”، وفي الصحيح: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي قساوة قلبه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتحب أن يلين قلبك؟” فقال: نعم، قال: “أطعم المسكين وامسح رأس اليتيم”.
ورحمة الله قريبة لكل من طلبها بصدق وبذل أسبابها، فقد وجدها إبراهيم عليه السلام في النار، ووجدها يوسف عليه السلام في الجب وفي السجن، ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ووجدها موسى عليه السلام في موج اليم وفي قصر فرعون، ووجدها أصحاب الكهف في كهف موحش: {فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا}، ووجدها المعصوم مع صاحبه في الغار، وهكذا يجدها كل من طلبها بصدق: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم}.
وأسباب استجلاب رحمة الله كثيرة، أعظمها الإيمان والعمل الصالح: {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين}، ومنها رحمة الخلق والرفق بهم: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”، ومن أسباب استجلاب رحمة الله إصلاح ذات البين: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}، ومن ذلك الإنفاق في سبيل الله: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم}، ومن أعظم الأسباب الجالبة لرحمة الله تعالى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله}.. والله ولي التوفيق.
*إمام مسجد عمر بن الخطاب، بن غازي، براقي