ارتفعت نسب حوادث المرور في بلادنا، مؤخرا، بصورة مروّعة، إذ تحصد يوميا عشرات الأرواح البريئة، ما يتطلب حلا رادعا لهذه المعضلة التي أرهقت ميزانية الأسر والدولة، بسبب الخسائر الجسيمة المترتبة عليها.
إن أي مشكل لا يمكن معالجته إلا بمعالجة أسبابه، والإسلام عالج حوادث السير بمعالجة أسبابها، لقد أخذ فيها بمبدأ “الوقاية خير من العلاج” ومبدأ “سد الذرائع”. وأسباب حوادث السير بالتتبع والاستقراء هي عدم صلاحية بعض السيارات للاستعمال، فساد الطرق وعدم صلاحيتها، الجهل بالسياقة وقوانينها، الانشغال أثناء السياقة بأمور لا علاقة لها بالسياقة كالاتصال بالهاتف، السرعة المفرطة، الخمر والمخدرات، النوم والإرهاق، عدم احترام قوانين السير، والرشوة والارتشاء.
وأشارت المصادر المعنية إلى أن 96% من أسباب الحوادث تعود بالدرجة الأولى للعنصر البشري، نتيجة عدم احترام قانون المرور وعدم التقيد بمسافة الأمان والإفراط في السرعة والإرهاق وعدم التركيز عند القيادة والانشغال بالهاتف الجوال، إضافة إلى أسباب أخرى متعلقة بالمركبات والطرق المتهالكة.
لقد ازداد الاهتمام بطرق المواصلات في هذا العصر اهتماما ملحوظا، نظرا لأهمية الطرق في تنشيط حركة السير والسياحة والتجارة والتنقل من مكان إلى آخر بيسر وسهولة، حيث زادت قدرة الإنسان في إصلاح وتعبيد الطرق المختلفة في كل البلاد.
وقد أشارت الآيات القرآنية الكريمة إلى الطرق وبيّنت أنها نعمة من نعم الله تعالى، حيث قال الله في كتابه العزيز: {الذي جعل لكم الأرض مِهادا وجعل لكم فيها سُبلا لعلكم تهتدون}، وقال تعالى: {وجعلنا فيها فِجاجا سبلا}، يقول القرطبي: (والفِجاج: المسالك، والفج: الطريق الواسع بين الجبلين.. لعلهم يهتدون في السير في الأرض). وفي الآيات الكريمة التي سبق ذكرها إشارة إلى استخدام طرق المواصلات وضرورة الاهتمام بها وإنشائها وتسهيلها على اختلاف أنواعها وأغراضها، وهي مسؤولية هامة تقع على عاتق الدولة.
ومن باب تحمّل المسؤولية في تسهيل الطرق ما فهمه عمر بن الخطاب أن الحاكم مسؤول عن تسهيل الطرق، وأنها من مهماته الأساسية التي يجب أن يعطيها اهتمامه، حيث جاء في قولته المشهورة: “لو عثرت بغلة في العراق لحسبت عمر مسؤولا عنها: لِمَ لم يسوّ لها الطريق؟”.
فالطرق والجسور بناء وإصلاحا، وكل المرافق إنشاء وصيانة، وتسهيل الطرق والمواصلات من المصالح العامة التي يعود نفعها على كافة المسلمين، والحاجة الماسة تدعو إلى تحقيقها حفظا لراحة المسلمين وسدا لحوائجهم وتحقيقا لمنافعهم، ومن هنا أجاز الفقهاء الوقف على المصالح العامة، كبناء الطرق والجسور. وفي معرض الإشارة إلى هذا العمل الجليل، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أخرج من طريق المسلمين شيئا يؤذيهم كتب الله به حسنة ومن كتب له حسنة أدخله الجنة».
إن الشعور بالمسؤولية تجاه سالكي الطريق يتطلب من المهندسين والعمال والمسؤولين إتقان عملهم لضمان جودة الطريق، والعمل على إعمال بنية تحتية للطرق موافقة للمعايير المطلوبة، وكم من أرواح أزهقت بسبب التقصير في العمل، وكم من ضياع للمركبات وحوادث سير وقعت بسبب تهالك الطرق... وقد حرّم الإسلام كل ما يضر بالصحة العامة، أو يؤدي إلى الضرر، ومن ذلك حرمة الحشيش والأفيون والهيروين والتدخين، لأن ذلك من أسباب الحوادث المرورية، قال تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}.
ومن توجيهات القرآن الكريم قوله تعالى: {واقصد في مشيك}، وقال صلى الله عليه وسلم: «الأناة من الله والعجلة من الشيطان فتبينوا»، والتبين ضروري حتى لا يقع الإنسان في المخاطرة والتسرع وعدم أخذ الحيطة والحذر، وفي السفر يتعرض الإنسان إلى ألوان التعب وصنوف العذاب، لأن السفر كما يقول صلى الله عليه وسلم: “السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى نهمته من وجهه فليعجل إلى أهله”. ومن هنا، تبيّن أن الإسلام راعى ظروف السائق النفسية، وأنه يحتاج إلى الاستقرار والراحة، وأن لا يفرط في الترحال لما فيه من المخاطرة، خاصة إذا ما أصيب المسافر بالتعب والإرهاق، الأمر الذي يؤدي إلى التأثير على تعامله وحدة نفسه وانفعاله وسرعته وتهوره.
ولابد من المراقبة ومتابعة السائق في سلوكه ليسلك أسلم الطرق ولكي لا يخالف قواعد السير العامة، وينصح السائق بضرورة المحافظة على أرواح الناس والسير ببطء عند الازدحام أو تغيير الطريق عند حدوث الانزلاقات وتغير الطقس ونزول الأمطار والثلوج.
ومما لا يختلف فيه أهل العقل والفطرة أن قوانين المرور التي تلزم الدول شعوبها بالانقياد لها وتطبيقها هي من المصالح ومن أبواب الخير، ويجب على المجتمع ألا يتوانى ولا يتهاون في تطبيقها “فالجميع مسؤول، قائد المركبة مسؤول، ورب الأسرة مسؤول، ورجل الشرطة مسؤول، فليعمل كل بحسب مسؤوليته، ولنتذكر جميعا قوله تعالى: {وقِفُوهُم إنهم مسؤولون}. فيجب على كل مستخدم للطريق أن يلتزم بقواعد المرور؛ لأن الالتزام بها يحقق الأمن ويحقن الدماء، ويحفظ الأموال عن التلف، ويحقق المقاصد الشرعية الكلية التي جاءت الشريعة لحفظها.
إن الحذر وعدم التفريط في الأمور اتكالا على القدر أمر مطلوب في الدين، فإذا كان لكل قدر سبب، فإن من أسباب النجاح في العمل هو الأخذ بالأسباب، وكذا فإن سبب الخيبة والفشل ووقوع الحوادث هو التفريط وترك أخذ الحيطة وإهمال قواعد السير الواجب العمل بها. ففي مدح التؤدة والأناة في الأمور كلها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف رجل: “إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحِلم والأَناة”.