حادثة الإسراء والمعراج حادثة قُدسية عجيبة فريدة، لم ينل شرفها أحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعده، ولم تنل شرفها أمة من الأمم غير الأمة الإسلامية. ومن الناحية التاريخية والاستراتيجية في مسار هذا الدين وهذه الأمة هي حدث عظيم ومنعرج هام من حيث توقيتُها ومن حيث أهميتُها، ذلك أنها جاءت بُعيد عام الحزن فكانت تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وختاما للمرحلة المكية بما فيها من جهاد وجهد، وبذل وكد، واضطهاد وكدح، ومصابرة وصبر. وإعدادا لرسول الله والقلة المؤمنة معه لمرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية، هي مرحلة المجابهة بما تتطلبه من قوة إيمانية ونفسية، وتضحيات جسام، وقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورا بالصبر والمصابرة في مكة، وبعد الهجرة أُمر بالجهاد والمجابهة، فجاءت معجزة الإسراء والمعراج قبل الهجرة بقليل؛ لتكون رؤية آيات الله الكبرى، ولقاء الأنبياء عليهم السلام، ورؤية ملكوت السموات تمهيدا لهذه المرحلة التي سيقف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقلة من أصحابه في مواجهة الدنيا كلها، وماذا تساوي هذه الدنيا حجما وقدرا أمام السموات الطباق؟!.
هذه المعجزة العظمى التي عظمها الله جل شأنه، فنوه بقدرها في سورتين من سور القرآن العظيم، فقال جل في علاه: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} الإسراء:01، {والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى} النجم:1-18، هذه المعجزة العظيمة صارت طيفا عند كثيرين من المسلمين، لا يعرفون عنها الكثير، ولا تهمهم ولا يهمهم معرفتها من قريب أو بعيد!، والسؤال الذي يسقط على عقل أي عاقل: كيف لمعجزة عظيمة وحادثة هامة دينيا وتاريخيا كهذه الحادثة أن تصير مجرد طيف عند أكثر المسلمين؟!، بل فيهم من يجهلها كلية!، بل فيهم من لا يؤمن بها ويشكك في حدوثها!، والجواب واضح، إنه الجهل ورقة الدين والتخلف الذي يعاني منه المسلمون، ما جعلهم يبتعدون عن هدي دينهم ويغرقون في تقاليد الغربيين الماديين!، والجهل يفعل بصاحبه ما لا يفعله العدو بعدوه كما يقولون!؛ ولهذا حرص الاستعمار القديم والاستعمار الجديد المتطور (استعمار عن بعد!) على تجهيل الشعوب المستعمرة لاستحمارها!.
إن من أبرز وأقرب مظاهر الجهل ورقة الدين والتخلف التي حجبت عنا عظمة ديننا ومنعتنا من التقوّي بديننا شيوع الجدل في كل أمور الدين بين طلبة العلم والعلماء، وبين العوام والدهماء على السواء!، وخاصة في المناسبات الدينية، التي الأصل فيها أنها توحد المسلمين شعائر ومشاعر!، بيد أنها صارت محطات للتفرق والتشرذم بسبب المراء والجدال، وبدل أن نقف في ذكرى الإسراء والمعراج لتعليم الجاهلين وتنبيه الغافلين عظمة الإسراء والمعراج وأحداثها وأبعادها، وفي مقدمتها أبعاد مكانة المسجد الأقصى المبارك وأهميته وفضله، أضعنا تحقيق هذه المقاصد بالجدال حول تاريخ وقوعها: هل كانت في السنة العاشرة أم الثانية عشرة؟، وهل كانت في رمضان أم في رجب؟... إلخ. والجدال حول جواز الاحتفال بها من عدمه!، والقرآن العظيم ذكر الحادثة دون اهتبال بتحديد زمن وقوعها كما هي عادة القرآن في سرد قصصه الحسنى، إذ مقصده الأعظم منها هو الاعتبار والاستفادة: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}، وهذا مقصد لا يؤثر فيه معرفة الزمن أو جهله.
إن ذكرى الإسراء والمعراج التي نتفيأ ظلالها هذه الأيام لها نكهة خاصة إذ رافقها طوفان الأقصى المبارك، الذي رد المسجد الأقصى المبارك إلى دائرة اهتمام المسلمين والناس أجمعين، ورد قضية فلسطين إلى نقطتها المركزية وهي قضية المسجد الأقصى، فرغم أن الطوفان المبارك انطلق من غزة دفاعا عن أهلها المظلومين لعقود من الزمن، إلا أن الأبطال الذين أطلقوه جعلوا عنوانه الأقصى، وهدفه الأقصى، ورايته الأقصى، وغايته الأقصى... وهذا من فهمهم لأبعاد الصراع مع الصهاينة، وإدراكهم لأولويات المرحلة، وفقههم للدين فقها صحيحا، ولا جرم في ذلك فهم الفرقة الناجية بشهادة سيد المرسلين عليه السلام، وليس من استحق هذه السمة بالشهادة النبوية كمن ادعاها ادعاء!.
إن حادثة الإسراء والمعراج لها ارتباط وثيق بالمسجد الأقصى، ومن مقاصدها التنبيه على فضله وعظمته وواجب المسلمين تجاهه، ويكفي أنها ربطت بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام والمسجد النبوي [المسجد النبوي لم يكن قد بُني حين نزلت سورة الإسراء، ولكن وصف الأقصى يلمح إلى وجود مسجد قَصِيٍّ غير أقصى هو المسجد النبوي] برباط عقدي أبدي، أكده حديث أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى» رواه البخاري ومسلم، وكل مساجد الأرض اختار الناس مكان بنائها إلا هذه المساجد المباركة فقد اختار الله جل جلاله أمكنتها.
ويكفي أيضا أنها نبهت على وجوب تحريره، وأن يكون تحت سلطان المسلمين، فقد كان حين حدوث الإسراء والمعراج يرزح تحت احتلال الرومان، ونزول الآيات حث للمسلمين على استرجاعه، يقول العلامة الكبير مصطفى السباعي رحمه الله: “في معجزة الإسراء والمعراج أسرار كثيرة نشير إلى [بعض] منها فحسب: ففيها ربط قضية المسجد الأقصى وما حوله -فلسطين- بقضية العالم الإسلامي، إذ أصبحت مكة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم مركز تجمع العالم الإسلامي ووحدة أهدافه، وأن الدفاع عن فلسطين دفاع عن الإسلام نفسه، يجب أن يقوم به كل مسلم في شتى أنحاء الأرض، والتفريط في الدفاع عنها وتحريرها، تفريط في جنب الإسلام، وجناية يعاقب الله عليها كل مؤمن بالله ورسوله”.
وأقول: إن الله حمى مكة والمدينة فجعلهما حرمين آمنين، فلا يدخلهما كافر محارب أو مسالم، حتى الدجال يمنع من دخولهما كما صحت بذلك الأحاديث، وقد تولى سبحانه حمايتهما والدفاع عنهما، وترك للمسلمين الدفاع عن المسجد الأقصى فقط، فضيّعوه وفرّطوا.. وحين قام أبطال المقاومة الغزيين للدفاع عنه خذلوهم إلا قليلا!، وفيهم من خانهم وألب عليهم!، فأين نحن من الإيمان بالإسراء والمعراج؟!.
* إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة