ينتشر، هذه الأيام، تبادل الأخبار والإشاعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي دون التثبت من صحتها، بل الكثير من الأخبار زائفة مغرضة، هدفها نشر الوقيعة بين الناس ودق إسفين الخلافات والنزاعات بين أفراد المجتمع الواحد والأمة الواحدة. وإن الواجب على المسلم، خاصة من يعمل في مجال نقل المعلومات أيا كان مصدره، جريدة أو مجلة، أو ناشط على مواقع الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي، أن يتثبت مما ينقله، فلا يفرح بسماع شيء ليكون له فضل السبق في نشره قبل التأكد منه، وهذا هو منهج الإسلام في نقل الأخبار والمعلومات.
إن التثبت مطلب شرعي لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}، وفي قراءة أخرى (فتثبتوا)، وقد حذر الشارع الحكيم أشد التحذير من نقل الشخص لكل ما يسمعه، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع”، قال النووي: فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب لإخباره بما لم يكن، والكذب الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو ولا يشترط فيه التعمد.
ومن الأمور التي تسبب انتشار هذا الباطل في الأخبار السعي والتلهف لما يسمى بالسبق الصحفي لنشر الخبر، وليكون هو أول من أذاعه، وهذا ينافي التأني والتثبت، وقد قال عليه الصلاة والسلام: “التأني من الله، والعجلة من الشيطان”.
وتزداد أهمية التثبت وتعظم الحاجة إليه في زمن وقوع الفتن، واضطراب الأحوال، واختلاط الحق بالباطل، والصدق بالكذب، لما يستدعيه زمن الفتن والشرور من كثرة الكذب والافتراء. فالفتن إنما تظهر بالإشاعات والأباطيل، وتنتشر بالقيل والقال، مع خفة عقلٍ في نقلتها، ورقة دين، تمنعهم من امتثال أمر الله تعالى بالتثبت وترك العجلة.
فلا شك أن الشائعات والأكاذيب والتهم الجزاف تمثل مصدر قلق في البناء الاجتماعي، والانتماء الحضاري لكل الشعوب والأمم، ولبثها ونشرها بين أفراد المجتمع آثار سلبية على تماسك المجتمع المسلم وتلاحم أبنائه وسلامة لحمته والحفاظ على وحدته. وإن ترويجها ونشرها جريمة ضد أمن المجتمع وسلامته، وأصحابها مجرمون في حق دينهم ومجتمعهم، مثيرون للاضطراب والفوضى في أمتهم، فكم تجنوا على أبرياء، وأشعلوا نار الفتنة بين الأصفياء، وكم نالوا من علماء وعظماء، وكم تسببوا في جرائم وأزمات، وفككوا من أواصر وعلاقات، وحطموا من أمجاد وحضارات...
وإن نشر الإشاعات والأخبار بلا تثبت له عواقب وخيمة وآثار سيئة وخيمة، فكم من خبر وفاة انتشر بخبر كاذب؟! وكم من امرأة طلقت بخبر كاذب؟! وكم من زواج فشل بخبر كاذب؟! وإن كل هذه المحاذير توجب علينا أن نتلمس القواعد الشرعية في تلقي الأخبار وروايتها.
ومما جاء به الشرع الكريم قوله عليه الصلاة والسلام: “من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه”، ومعنى “ما لا يعنيه” مالا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة، وقال عليه الصلاة والسلام: “احرص على ما ينفعك”، فجمع الخير في هذه الجملة، وجمع الورع في حديث “من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه”.
فلا بد من النظر في القرائن المحيطة بالخبر، يقول ابن خلدون: “إن الأخبار إن اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، وكثيرا ما وقع للمؤرخين وأئمة النقل من الأغاليط في الوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا وسمينا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط”.
ومن الضوابط المهمة الحرص على عدم ترديد الإشاعات، قال تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}، وهذا تأديب من الله لعباده أن يردوا هذه الإشاعات والأخبار إلى أهل الرأي وأهل العلم، وأهل النصح وأهل العقل، وأهل الرزانة وأهل الخبرة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا فائدة في نشره نشروه بعد التأكد منه، وإن كانت المصلحة في كتمه كتموه وأمروا بكتمه، فهذه الأخبار الكاذبة والإشاعات كالعملة المزيفة، يصكها مجرمون عتاة، ويتناقلها العامة والمساكين، وتستمر بأيديهم زمنا دون أن يعلموا ما يفعلون.
فالتثبت من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش، والتثبت دليل على رجاحة العقل وسلامة التفكير، أما العجلة فدليل على نقص في العقل وخلل في التفكير. وإن من أهم الخطوات في مواجهة حرب الشائعات تربية النفوس على الخوف من الله، والتثبت في الأمور، فالمسلم لا ينبغي أن يكون أذنا لكل ناعق، بل عليه التحقق والتبين، وطلب البراهين الواقعية، والأدلة الموضوعية، والشواهد العملية، وبذلك يسد الطريق أمام الأدعياء الذين يعملون خلف الستور، ويلوكون بألسنتهم كل قول وزور.