ليست هي المرة الأولى التي يقع فيها تقدير مختلف أو تباين في وجهات النظر لمسألة مصيرية بين صناع القرار (الجماعة) في الوطن، وذلك منذ الاستقلالوحتى قبله، إلا أنه وفي كل مرة يقع فيها مثل هذا الاختلاف تُغلّبُ فيه المصلحة المشتركة والمتفق عليها بينهم لاستمرار مصلحة النظام. في سنة 1962 اختلفت فيه وجهات النظر وتقدير الموقف بين الحكومة المؤقتة وبين قيادة الأركان، فانسحب يوسف بن خدة (رحمه الله تعالى) رئيس الحكومة المؤقتة آنذاك لصالح قيادة أركان الجيش (الجماعة).كما أن آيت أحمد حملَ السلاح في وجه رفقاء الأمس (الجماعة) بعد الاستقلال مباشرة. وبمجرد اعتداء ملك المغرب على الوحدة الترابية للوطن سنة 1963 وسماع نداء استغاثة من طرف الرئيس بن بلة رحمه الله، استجاب آيت أحمد وانضم (للجماعة) وحوَّلَ فيلقه من تيزي وزو للالتحام مع رفقاء السلاح في وجه القوات الغازية.وفي نهاية سنة 1991، اختلفت المؤسسة العسكرية مع الرئيس آنذاك الشاذلي بن جديد رحمه الله، بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وحُلَّ الخلاف بتنازل الرئيس عن الحكم بالاستقالة لصالح (الجماعة) المؤسسة العسكرية.كما يجب أن لا نغفل الاختلاف الذي شب بين الرئيس زروال سنة 1997 وبين المؤسسة بسبب الاتفاق الذي أُبْرِمَ بين دائرة الاستخبارات وبين الجيش الإسلامي للإنقاذ لوضع السلاح، والذي تُوِّج بقانون الوئام الوطني ثم لاحقاً بقانون المصالحة الوطنية، حيث أن تقديرات الرئيس في حينها كانت مخالفة تماماً لتقديرات رفاقه، مما اضطره بعد فترة للمحافظة على وحدة المؤسسة (الجماعة) وانسحب باستقالة قبل انتهاء فترته الرئاسية (بغض النظر عن الخلافات التي نشبت بين بتشين وبينهم حول نية ترشحه لرئاسة الجمهورية والتي لم تكن هي الأساسية لانسحابه).أردت أن أعرج على بعض هذه المحطات لأقول إن الذي يحدث اليوم ليس هو المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا الخلاف في هرم السلطة، لكن هي المرة الأولى التي حدث أن أحد طرفي السلطة (أو الحاكم بأمره) لم يراع حماية وحدة (الجماعة)، بل ذهب بعيداً بالصراع لتقسيم الجماعة وتشخيص الخلاف بعيداً عن مصلحة وحدة القرار، مما قد ينذر بتصدع المؤسسة العسكرية والأمنية.طبعاً، هذا الصراع ليس الهدف منه هو حماية الدولة المدنية أو تمدين النظام السياسي، وإنما الصراع هو حول التمديد وحماية مصالح العصب وعدم إعطاء فرصة للتحقيقات الداخلية، وحتى القضاء الخارجي، ليكمل جميع تحرياته وتحديد مسؤوليات الفساد والرشاوى، بعيداً عن اتهام شخص عند هذا الطرف أو تلميعه والدفاع عنه عند الطرف الآخر، وبين الخروج الآمن للرئيس وليس بالضرورة لعصبته!من هنا، فإن سيناريوهات الرئاسيات المقبلة ممكن أن تكون نقطة تنفس للساحة من الاحتباس السياسي، والذي أثر سلباً على بيئة الديمقراطية والحريات وكرّس الأحادية والجهوية بأن يتم الدفع بالمنافسة بين جيل غير جيل الثورة، وهذا هو الذي أرجحه الآن.كما يمكن أن تكون محطة الرئاسيات محطة تعفن والضرب تحت الحزام، بتشبث الثلاثي المقدس بالمترهلة أو بالجنون السياسي لتوريث الحكم لمدلل المترهلة، والسير بالبلد على هشاشة استقراره إلى تصادم يؤدي لانقسام (الجماعة) وانشطار المؤسسة العسكرية لأول مرة بسبب عامل خارجي، وليس داخليا كما حدث بين بومدين رحمه الله وبين الطاهر الزبيري، وهذا السيناريو بدأت تضعف أدوات تنفيذه أمام السيناريو الأول لحسابات واقعية وصعوبات لوجستية.فالرئيس النائم على فراشه (إن كان يدري ما يدور حوله) بيده أدوات البقاء في الحكم، والمتمثلة في: الدبابة - التلفزيون والإذاعات الوطنية - صندوق ضبط الموارد والخزينة العمومية - جزء من الإدارة العامة - الداخلية - العدل - المجلس الدستوري، وبيده صلاحية إمضاء المراسيم لأسابيع قادمة.لكن ينقصه أشياء أساسيةأولاً: ما يُقِرُ به أصدقاؤه ومن عاشروه ويُثْبِته ما عرفناه عنه في أرض الواقع، فالرئيس تنقصه الشجاعة والعزم (والأمثلة كثيرة للتدليل على ذلك)، اللهم إلا إذا مارس مهامه نيابة عنه مدلل المترهلة بتوجيه من الثلاثي المقدس، وهذا سيناريو إذا حدث هو سيناريو التعفين وهو غير محمود العواقب.ثانياً: ينقصه وقوف المؤسسة الأمنية إلى جنبه، وهي التي تملك كثيرا من مفاتيح اللعبة السياسية وكذا أدوات التأثير في الرأي العام.ثالثاً: أستطيع الرصد بأنه ومنذ الانتخابات البرلمانية الملغاة سنة 1991 وما تلاها من فوز الشيخ رحمه الله في انتخابات الرئاسة سنة 1995، (وعت الجماعة) الدرس وأصبح لديها القرار أنه لا مجال للصدف في تسيير ملف الاستحقاقات الانتخابية، خاصة الرئاسية منها، فتشكلت قاعدة للحكم سنة 1996 تحوي كلاً من التجمع الوطني الديمقراطي - حركة حمس - جبهة التحرير الوطني - الاتحاد العام للعمال الجزائريين - المنظمات الجماهيرية الكبرى - مؤسسات المجتمع المدني والباترونا، وتتوسع في كثير من الأحيان لأحزاب وجمعيات ورقية تنشط وقت موسم حصاد الريع (لسنا الآن بدراسة كيفية تشكّلها). هذه القاعدة للحكم عريضة تغلق الانتخابات تارةً، كما حدث سنة 1999 بمناسبة الانتخابات الرئاسية، بحيث انسحب المترشحون الستة وبقى عبد العزيز بوتفليقة وحيدا في السباق ينافس نفسه، أو قاعدة للحكم تقدم الإقناع لتسويق نتائج تزوير الانتخابات، كما حدث في انتخابات الرئاسة سنة 2004 أو انتخابات سنة 2009. هذه القاعدة للحكم بعد تدخل الرئاسة، وعلى الراجح بتوجيه منه في التلاعب بنتائج انتخابات البرلمان سنة 2002، انتقلت قاعدة الحكم من كتلة غالقة للعبة إلى كتلة تقنع الملاحظ بنتائج التزوير، وبلغت ذروة التلاعب من الرئاسة المترهلة بمهزلة نتائج انتخابات البرلمان والمحليات الفائتة لاستحواذ جبهة التحرير على أغلبية مقاعد البرلمان وبقانون انتخابات نسبية (وهذا من المستحيل أن يحدث في أي بلد مهما كان التزوير فاضحاً). هذه القاعدة التي كان يُعْتَمد عليها في تحالف إنجاح الرئيس سابقاً (انتخابات 1999 و2004 و2009)، تصدعت وأصبحت بالشكل الآتي:1- انسحبت منها حمس ودعا مجلس شوراها لمقاطعة العملية الانتخابية.2- المتبقي منها انقسم لثلاثة أقسام:- القسم الأول: وهم مع الرئيس، أو بالأحرى مع الثلاثي المقدس وليس مع الرئيس، وهما بقايا جبهة التحرير بقيادة عمار سعداني، والمتساقطون والانتهازيون من الجبهة ومن التجمع وبعض النزهاء على قلتهم، المنضوين باسم “تاج” تحت قيادة الوزير عمر غول، وهما الذين فقدوا صوابهم فاسْتُعمِلوا كورقة ترويج للعهدة الرابعة ولحماية مكتسبات حزب الفساد، حتى أنهم صرحوا بالبدء بجمع التوقيعات لولا تكذيبهم من طرف أحد رجالات الرئيس (وزير الدولة وزير الداخلية)، ولاحقاً ببيان للمجلس الدستوري، وهم الذين جزموا من قبل بأن تعديل الدستور قبل الرئاسيات، وتبين فيما بعد بأن لا علاقة لهم بالمعلومة، وإنما هم مجرد أدوات بيد الثلاثي المقدس يتلاعب بهما كما يشاء.- والقسم الثاني لقاعدة الحكم:وهم: شعبية الوزير الأول عبد المالك سلال المتنامية من الخرجات الميدانية - التجمع الوطني الديمقراطي - المنظمات الجماهيرية - الاتحاد العام للعمال الجزائريين - مؤسسات المجتمع المدني - الباترونا - حزب الوزير عمارة بن يونس، وهؤلاء جميعهم مع دعم الرئيس إذا ترشح، لكنهم محافظون جميعهم على خط الرجعة. وموقفهم يعطي انطباعا آخر بأنهم لن يكونوا طرفاً في صراع الثلاثي المقدس مع دائرة الاستعلامات والأمن، أو بتعبير آخر هم مع الرئيس وليسوا ضد المؤسسة الاستخبارية. وإذا كان ولابد من تموقع في أي صراع محتمل بينهما، فإنهم سيختارون صف مؤسسة الاستعلامات والأمن.- القسم الثالث: وهي غالبية قيادة جبهة التحرير ممثلة في ثلثي اللجنة المركزية بقيادة بلعياط، والقاعدة النضالية بالولايات التي تمثل الامتداد الطبيعي لهم، وهذا القسم سيقف لا محالة وبدون تردد خارج رغبة محيط الرئيس.ورغم ذلك، مادام أدوات الإشراف على العملية الانتخابية والإعلان عن نتائجها هي بيده، فإن لا قدر الله وترشح الرئيس ستعلن النتائج بفوزه وستكون لا محالة مزورة (رغم استبعادي لترشحه). وإذا وقع هذا وحدث، سنترقب حينها ربيعنا سلطويا بيد المرشح المنافس وهو من دائرة الحكم، وسنشهد الثورة البرتقالية الأوكرانية تستنسخ في الجزائر وسينتهي حكم المترهلة حينها بثورة على حكمه، وإن القسم الثالث لقاعدة الحكم بكامله سيدعم المرشح المنافس وكذا غالبية القسم الثاني ستدعمه كذلك (وهذا ما لا يتمناه الرئيس أو يرضاه أو يقبل به أو يسمح للثلاثي المقدس بالمجازفة به).فالغالب على توقعاتي، هو أن يتم تنفيس الساحة من الاحتقان والاحتباس، ليس بشكل طبيعي، وإنما بأدوية كيماوية لتسهيل عملية الإمساك، وسيكون المرشح هو من قاعدة الحكم وينتمي للقسم الثاني من هذه القاعدة ولن يكون ضمن مؤثرات الثلاثي المقدس، أي بتعبير آخر تربطه علاقة ود وحميمة مع مؤسسات الدولة، وفي نفس الوقت محسوب على محيط الرئيس.وأتوقّع ضمن هذه الدائرة لا يكون من المؤسسة السياسية الحزبية، وإنما من كوادر الدولة في الإدارة العمومية.إن عملية تدوير السلطة وانتقالها من جيل الثورة للجيل الذي يليه، إذا حدث هذه المرة، فسيحدث بإطارات المدرسة العليا للإدارة، وليس من الأحزاب السياسية، وذاك صار واضحاً من شكل الحكومة الأخيرة، فغالبيتهم هم من هذه المدرسة وبعيدون عن ممارسة السياسة وعن اختيار الشعب لهم.ملاحظة: مصطلح الجماعة أو الخاوة توارثوه من أدبيات الثورة المباركة.*محلل سياسي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات