قد يخيّل لك وأنت تتجول، سهرة أول أمس، في شوارع أبيدجان أو بواكي أو غيرها من المدن الإيفوارية، أن منتخب "الفيلة" هو الذي فاز وتأهّل قياسا بالأجواء الاحتفالية التي صنعها الإيفواريون بعد فوز منتخب نيجيريا على نظيره الكاميروني (2-0) في مباراة الدور ثمن النهائي من كأس الأمم الإفريقية 2023.
سواء الجمهور الذي تنقّل إلى ملعب فيليكس هفوات بواني في أبيدجان، أو ذلك الذي احتشد في الساحات العامة والمقاهي والحانات وغيرها في مدن وشوارع كوت ديفوار، التجاوب ورد الفعل كان نفسه، تشجيع وحماس بعد كل هدف أو لقطة خطيرة لنيجيريا وتصفير مع الكثير من السخرية على كل اللقطات الكاميرونية، ومع صافرة نهاية المباراة، انطلقت الحناجر مهلّلة بإقصاء الأسود غير المروّضة.
"عودوا إلى دوالا، كأس إفريقيا للكبار فقط".. ردد أحد الايفواريين ممن سألتهم "الخبر" "لم أنت سعيد لهذه الدرجة"، فرد بلهجة ساخرة "منتخب مغرور عاد لحجمه الطبيعي"، ليعقّب آخر "لا تتعب نفسك، لا أحد هنا يحب منتخب الكاميرون، كلنا نسعد لخسارته والأمر نفسه بالنسبة لهم".
الحكاية بدأت في دورة 1984..
بحثنا عن جذور هذا الصراع وهذه الندية، وجدنا أنها تعود لأكثر من 40 سنة بمناسبة احتضان كوت ديفوار لنسخة 1984. يومها وقف رفقاء ميلا وأبيغا وراء واحدة من أكبر الإخفاقات الكروية المحلية عندما هزموا تشكيلة البلد المنظم بثنائية وأقصوهم من الدور الأول، ورافق ذلك أجواء احتفالية في الملعب وخارجه في مشاهد بقيت محفوظة في الذاكرة.
انتظر الإيفواريون فرصة الثأر لما حدث 8 سنوات ولاحت الفرصة عندما التقى المنتخبان في نصف نهائي كأس الأمم الإفريقية 1992 بالسنغال، وهنا تفوّق الحارس الأسطوري للفيلة، ألان غواميني، على نظيره الكاميروني أنطوان بال، في ضربات الترجيح وحسمها "الفيلة" ليصعدوا إلى النهائي ويثأروا قبل أيام من دخول سجّل الأبطال بعد الفوز في النهائي على حساب منتخب غانا 1992.
مباراة 4 سبتمبر 2005 عالقة في الأذهان
وبعد فترة من الهدوء، جاءت مباراة المنتخبين بتاريخ 4 سبتمبر 2005 لتشعل العلاقة بين المنتخبين من جديد، كانت مباراة ضمن التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2006 في ألمانيا ضمن المجموعة الثالثة التي سميت مجموعة الموت، لأنها جمعت ثلاثة أسماء كبيرة في القارة: مصر، الكاميرون، كوت ديفوار، بالإضافة إلى السودان.
تمكّن "الفيلة" الذين غابوا عن التأهل لبطولة كأس الأمم الإفريقية التونسية عام 2004، من تحدي التوقعات باحتلال المركز الأول في المجموعة وحصولهم مؤقتا على تذكرة مشاركتهم الأولى في "المونديال" وكان التعادل يكفيهم أمام الكاميرون على ملعب فيليكس هوفوات بوانيي في أبيدجان لضمان التأهل للمونديال.
وبتشكيلته الذهبية بأسمائها اللامعة، مثل ديديي دروغبا، وكولو توري وأرونا ديندان، كان "الفيلة" شبه واثقين من جعل المباراة ضد الكاميرون شكلية.
"سنجعلكم تذهبون للنوم باكرا"
لكن قبل المواجهة، وعد صامويل إيتو وريغوبير سونغ (المدرب الحالي)، ومعهما لاعب ريال مدريد آنذاك، جيريمي نجيتاب، الإيفواريين في مؤتمر صحفي بـ "جعلهم يذهبون إلى النوم باكرا على الساعة السابعة مساءً".
وبالفعل أمام ملعب مكتظ عن آخره، نجح المهاجم الكاميروني أشيل ويبو في شلّ تركيز المدافعين الايفواريين على مراقبة نجم نادي برشلونة صامويل إيتو، وسجل ثلاثية وصنع الفارق أمام ثنائية قائد منتخب كوت ديفوار ديديي دروغبا.
"صرخات الفرح أفسحت المجال للدموع" ..هكذا وصف لنا أحد الصحفيين الايفواريين ذلك السيناريو "الرهيب" عندما سرقت الكاميرون المركز الأول، لكن "الفرح" عاد وانقلب 180 درجة ليعود إلى جانب الإيفواريين، بعد فشل الأسود الجموحة من الفوز على مصر في المباراة الأخيرة مقابل فوز "الفيلة" في السودان في الجولة الأخيرة ويصعدوا بذلك إلى المونديال لأول مرة في تاريخهم.
أغنية "ماجيك سيستام"
وعلى ضوء هذه الأحداث ، أصدرت فرقة "ماجيك سيستام"، أغنية ناجحة لا يزال صداها وحضورها ماثلا إلى اليوم وقد صبت الزيت على النار. وفي إحدى مقاطع فيديو الأغنية، نرى نجوم الفريق وهم يسخرون من الكاميرون بسعادة "كان يوم 4 سبتمبر، هنا في أبيدجان، فازوا علينا، يقولون إنهم خرجوا"، "ما نسوه هو أن الإحباط ليس من كوت ديفوار" تستمر الأغنية، ثم يتغنى ديديي دروغبا بضربة الجزاء التي كلّفت الكاميرون مكانها "ركلة جزاء في ياوندي... حتى لو لم يكن هناك حارس مرمى، لم تكن لتسجّل"، يغني قائد كوت ديفوار.
وهنا بدأ الصراع "الكروي" بين البلدين يأخذ طابعا آخر بعد أن تنافسا أيضا على أحقية اللاعب الإفريقي الأفضل في تلك الفترة ما بين نجم تشيلسي دروغبا وهداف "البارسا" إيتو منافسة بقيت مشتعلة حتى بعد أن ارتبط الرئيس الحالي للاتحاد الكاميروني بزوجته من جنسية إيفوارية.
المسرحية الكاميرونية في "الكوفيد"
ومن الأمثلة على هذه العلاقة المضطربة والطريفة بين الشعبين، ما حدث خلال نهائيات كأس الأمم الإفريقية الماضية بالكاميرون، حيث أثار الإيفواريون عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلف، الجدل بشأن حالات الإصابة بفيروس كورونا في الاختيارات التي كانت تفرض وقتها على المنتخبات المشاركة.
البداية لم تكن توحي بذلك، حيث حظي "الأصهار" كما أطلق عليهم (بسبب زواج إيتو من إيفوارية كما ذكرنا) باستقبال حار لدى وصولهم إلى دوالا وحظي بتشجيع الجمهور الكاميروني الذي حظر مباراتهم الأولى أمام غينيا الإستوائية، لكن كل شيء تغيّر بعد ذلك.
واتهم الإيفواريون الدولة المنظّمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بأنها تلاعبت بنتائج الاختبارات لإقصاء لاعبين من المنتخبات التي يتعيّن عليها مواجهة الأسود غير المروضة، خاصة لما واجهوا منتخب جزر القمر في الدور ثمن النهائي. يومها لم يسجل منتخب الكاميرون أي حالة إصابة بكوفيد، في حين جاءت نتائج 12 فحصا إيجابية لمنتخب جزر القمر، بما في ذلك حارسي المرمى، بعدها أصيب حارس المرمى الثالث واضطر جزر القمر إلى اللعب بمدافع في المرمى وخسروا مع ذلك بصعوبة 1-2.
..عندما يتعلم الكاميرونيون النشيد المصري
وهنا أطلق "المؤثّرون" الإيفواريون العنان لسخريتهم على ما وصفوه المسرحية الكاميرونية، وهو ما كانت له عواقب مباشرة أيام بعد ذلك عندما كرّس الكاميرونيين مدفوعين بتحريض من "مؤثّريهم" هذه المرة، وقتهم لأجل تعلّم النشيد الوطني المصري، حيث انتشرت مقاطع فيديو لكاميرونيين يرددون نشيد "بلادي" تحسبا لدعم منتخب الفراعنة في مباراة الدور ثمن النهائي أمام "الأصهار" في المباراة التي احتضنها ملعب جابوما في 26 جانفي وانتهت لصالح رفقاء محمد صلاح بضربات الترجيح.
بالنسبة للكاميرونيين، كان الإيفواريون يستحقون هذه المعاملة "يجب على المرأة أن تحترم زوجها، فإذا رفعت رأسها، يجب على زوجها أن يصححها". وانتشرت هذه المقولة على مواقع التواصل الاجتماعي الكاميرونية بعد المباراة.
من يغادر المنافسة أولا يتعرض للسخرية
وقد تحوّل الخلاف بين الإيفواريين والكاميرونيين خلال كأس الأمم الإفريقية الحالية، إلى مقارنة بين مستويات التنمية، حيث تنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي مجموعات متخصصة في الصراع بين الكاميرونيين والإيفواريين، حيث تشيد كل منها بالبنية التحتية في بلادها، وتشوّه سمعة البنية التحتية لدى الأخرى، وهو ما يركّز عليه الإيفواريون عبر التغني بمرافقهم الرياضية والبنى التحتية التي يرون بأنها أفضل بسنوات ضوئية عن تلك التي وجدها الأفارقة في البطولة الماضية.
وبقى الصراع بين البلدين "الشقيقين" موضع متابعة عن كثب، وكان التحدي الأكبر بينهما قبل بداية الدورة هو أن أول من يغادر المنافسة سيتعرض للسخرية من الآخر وفاز الإيفواريون بالرهان في انتظار ما ستفسر عنه مباراتهم المقبلة أمام السنغال اليوم.