38serv

+ -

منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، ومالي، هذا البلد الجار، يعاني من الأزمات المتوالية بفعل التغييرات غير الدستورية. ومع كل انقلاب كانت البلاد تغرق في مستنقع الحرب الأهلية، دافعة الثمن الباهظ من أرواح أبنائها وبناتها، ومقدراتها التي تتعرض، منذ عقود، للنهب والسطو من طرف أطراف أجنبية لا يهمها استقرار مالي وشعبه.

وفي كل مرة، كانت الجزائر تمثل طوق النجاة الذي يتعلق به عقلاء مالي، لمعرفتهم المسبقة بما تكنه لهم من احترام وتقدير بعيدا عن سياسات التوسع والأطماع التي لا تخفيها باقي الأطراف في المنطقة وخارجها. فمنذ 1990، قامت الجزائر بدور الوسيط ونجحت فيه، وتوصلت، بفضل قدرتها على الجمع بين الفرقاء وتغليب لغة العقل على لغة البندقية، إلى اكتساب، مع مرور السنوات، ذلك التقدير لدى عموم الشعب المالي، وجميع مكوناته، وخاصة تلك المتمركزة في الشمال.

وفي كل اتفاق سلام كانت تبرمه الأطراف المالية مع حكومات باماكو المتعاقبة، كانت بصمة الجزائر واضحة، مغتنمة الروابط العائلية التي تؤثر بشكل كبير ومباشر على حياة السكان في شمال مالي وجنوب الجزائر، إذ الحدود بين الشعبين لم يعد لها معنى، وزادت معها أواصر الأخوة وثوقا، فاتحة الباب أمام بناء علاقات قوية لم تتأثر بفعل المؤامرات الإقليمية.

هي أربع اتفاقيات سلام منذ 1990. بمعنى آخر، مع كل انقلاب عسكري كان الانقلابيون يعيدون تدوير نفس الأسطوانة على مسامع الشعب المالي الذي يصدق مرغما مضامينها الغالية من معاني الصدق والمصداقية، مع العزف على وتر الوطنية والحفاظ على السيادة الوطنية التي يسعى العدو المعلوم وغير المعلوم لانتهاكها. وبمجرد تثبيت الانقلابيين حكمهم على أساس هذه الأباطيل والشعارات المضللة، تعود حليمة إلى عادتها القديمة، ممارسة الحكم الفردي والاستئثار بالخيرات والثروات، إلى أن يدب الخلاف مرة أخرى فتنقلب الأوضاع رأسا على عقب، وتعود البلاد إلى نقطة الصفر.

ولا يختلف الوضع اليوم عن البارحة. فالانقلابيون الجدد في باماكو يمارسون نفس العادة، باسم شعار جديد "السياديون الجدد"، وباسم التهديد القادم من الشمال. في السابق، كان التهديد القادم من الشمال ممثلا في فرنسا باعتبارها المستعمر القديم الذي قتل وشرد واستولى ونهب ثروات مالي، وجعل منه بلدا غير قادر على الحياة بمفرده، خاصة أنه ينام على مناجم المعادن النفيسة والطاقة، التي تسيل لعاب الاستعمار الجديد الذي يغير جلده كلما اقتضت الضرورة ذلك.

ومن أجل البقاء في الحكم ولو بطريقة غير شرعية، يهون كل شيء، حتى التضحية بالعلاقات القائمة على الاحترام المتبادل، والاستغراق في علاقات مبنية على التآمر وزعزعة الجيران بافتعال أزمات لن تزيد أوضاع مالي إلا تفاقما، وتدهورا.

وهذا ما يستشف من "هرولة" الانقلابيين في باماكو نحو إبرام تنسيقات وتحالفات هجينة مع قوى من خارج المنطقة، بحثا عن الدعم المزيف في الحصول على "عذرية" لشرعية غير ممكنة، وتمديد بقائهم في الحكم الهش، وتعليق الإخفاقات على مشجب الجزائر، وذلك بالاعتماد على الدعاية المغرضة التي تستهدف زرع الحقد والكراهية لكل ما هو جزائري، بعدما تمت شيطنة التواجد الفرنسي في المنطقة، وإخراجه فيما بعد، تاركا المجال أمام قوى أجنبية أخرى حلت محلها في مجال النهب والاستحواذ على ثروات الشعب المالي.

لقد أكدت الأيام قصور النظرة عند الانقلابيين، الذين تحركهم نفس النوازع والنزوات مهما تغيرت الأسماء والمقامات، بدليل السقوط الذي كان وسيبقى القدر المحتوم لكل انقلابي في المنطقة وغيرها، ولعل الدروس والعبر لا تقل في التاريخ.

كما يبدو أن انخداع الانقلابيين في باماكو بالمتباكين عليهم وعلى سيادة بلدهم التي هم أول من انتهكها بفعل الانقلاب غير محسوب العواقب، والذي تثبت الأيام من دبره ودفع إليه، بالنظر إلى اللاعبين الأساسيين في الساحة المالية حاليا أو على الأقل منذ عامين.

لقد انتشر المرتزقة بشكل سريع فور وقوع الانقلاب، ودفعوا نحو تفكيك الارتباطات الإقليمية والدولية لهذا البلد المتهالك اقتصاديا والمعزول عن العالم، وصاروا هم المتحكمون في مصير ملايين الماليين الذين يجدون أنفسهم محاصرين داخل سجن كبير لا مفر منه، بل هم اليوم مهددون بحرب أهلية قد لا يعرف أحد نهايتها، ووحدهم الماليون الذين سيدفعون الثمن، دون تجاهل الشظايا التي ستتساقط على دول الجوار، كما ستفتح المنطقة على نفسها أبوابا لا يمكن غلقها، خاصة بعد استثمار الدول المتدخلة، أو بالأحرى التي تحتل مالي اليوم، في الجماعات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة التي تقتات على عائدات الاتجار بالمخدرات والسلام وتهريب البشر ضمن أمواج الهجرة غير الشرعية وغيرها من الآفات.

 

كل شيء كان مبرمجا

 

هل كان ما حدث لاتفاق السلام والمصالحة المنبثق عن مسار الجزائر في مارس 2015، متوقع الحدوث؟ بكل تأكيد. وبعد الرجوع إلى بداية الأزمة في مالي فور وقوع الانقلاب، أبان الانقلابيون عن نواياهم السيئة، وبدأوا في التحلل من الالتزامات، بدءا من الدعوة إلى مغادرة القوات الفرنسية أراضي مالي، ثم تفكيك بعثة الأمم المتحدة "مينوسما"، وبعدها رفض لجنة متابعة تنفيذ اتفاق السلام والمصالحة، ثم جاء الدور، يوم الخميس الماضي، على اتفاق الجزائر، بداعي أن للجزائر أجندة مخفية تستهدف مالي !! وهو مبرر أقل ما يقاله عنه إنه قمة في الوقاحة والسقوط الأخلاقي المدعوم من قوى إقليمية تسعى لتصفية حسابات مع الجزائر، صاحبة المواقف المناصرة للقضية الفلسطينية وشقيقتها القضية الصحراوية.

وهنا يطرح السؤال: من المستفيد؟ لحد الآن جميع المؤشرات تشير إلى جهات استعمارية تتحكم في وكلائها في المنطقة المغاربية وفي الساحل، وتجمعهم النزعة التوسعية والتعطش لافتراس ثروات الشعوب بالتواطؤ مع السلط الفاسدة والاستبدادية التي وصلت إلى الحكم بالانقلابات والمنتهكة لتعهداتها أمام شعوبها بالعودة إلى الحياة الدستورية بعد التخلص من رموز الأنظمة الفاسدة !!

 

اكذب حتى يصدقوك

 

لقد وضع الانقلابيون في مالي أجندتهم على وعود بالعودة إلى الشرعية الدستورية بعد فترة انتقالية تنتهي في شهر فبراير القادم، وذلك التزاما بما أعلنوه أمام الأمم المتحدة، ولما كانت النتيجة غير محسومة لصالحهم، اختاروا طريقا آخر لن يكون أبدا في مصلحة الماليين، ولا منطقة الساحل من بعدهم.

فجرى أن وجد هؤلاء القشة التي بحثوا عنها طويلا، وبإيعاز من قوى الشر، تشبثوا بها، محرفين المظهر والمعنى.. فاعتبروا مبادرة الجزائر لتهدئة الأوضاع في شمال مالي بعد القصف المبرمج لإحدى قواعد البعثة الأممية السابقة، والتي كانت تحت سيطرة حركات الآزواد، بطائرة مسيرة (تركية الصنع) في مقاطعة كيدال، تحريضا على الثورة ضد سلطات العسكر في باماكو. بل وصفوا من استقبلهم رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون بالإرهابيين ! وهم الذين وقعوا اتفاق السلام في 2015 إلى جانب حكومة باماكو ! علما أن الأمم المتحدة تعترف بهم معتبرة إياهم مشاركين في صناعة السلام. بينما كان همّ الجزائر الوحيد هو إقناع زعماء الحركات المالية في الشمال باستبعاد أي خطوة من شأنها صب الزيت على النار في مالي، والعمل بهدوء لاستئناف المسار السلمي، وهو مبدأ تدافع عنه الجزائر في المحافل الدولية منذ استقلالها، ما أكسبها احترام العالم بأسره رغم صعوبة الطريق واختلاف الغايات والأهداف وسياسات بعض الدول المصنفة بين الصديقة والشقيقة (!)، والتي تجاوزت حدودها الجغرافية البعيدة من أجل القدوم إلى الساحل لزرع الفتنة وإشعال فتيل الحرب الأهلية في مالي، والمشاركة في زعزعة استقرار الآمنين بداعي حروب التموقع بين القوى الكبرى، ومن حيث يعلمون أو لا يعلمون استهداف الجزائر من كل الجهات، بعدما نجحوا في إحراق ليبيا وتشاد والسودان واليمن وسوريا، وبوركينافاسو والنيجر، وإفريقيا الوسطى، والقرن الإفريقي..