38serv
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}، قال الإمام ابن العربي في تفسير قوله تعالى: {وأولي الأمر منكم}: “فيها قولان: الأول: هم أصحاب السرايا [أي الأمراء وقادة الجهاد]، الثاني: هم العلماء، وبه قال أكثر التابعين، واختاره مالك… والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا؛ أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم. وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب”.
هكذا قرن الحق سبحانه طاعة العلماء بطاعته وطاعة نبيه في سياق واحد؛ لأنهم حفظة شرعه وورثة نبيه، وهذه مكانة تتقاصر عنها كل الرتب، وتتصاغر أمامها أسمى المقامات، وهذا لا يعني العصمة لأفراد العلماء، وإن أعطى الحجية لاتفاقهم من وجه خفي، ولكنه يثبت لهم حرمة تجب مراعاتها على كل مسلم ومسلمة.
كما يلزم التنبيه هنا لما يروجه بعضهم من أن المقصود بأولي الأمر المأمور بطاعتهم: الحكام، مخفين هذا الخلاف بين العلماء في تحديد المراد منهم، ومخفين بذلك أن المحققين من العلماء يرون المقصود بهم: العلماء والأمراء عامة. وطبعا محاولين بذلك سد منافذ نقدهم ومعارضتهم وتصحيح الأوضاع الناتجة عن سياساتهم الفاشلة!!.
والغريب أن التيار الذي يقدس وُلاة الأمر ولو كانوا متطرفين في حربهم للدين والحق والشعب، متطرفين في مولاة أعداء الأمة حتى الكيان الصهيوني!. نفسه التيار الذي يتطرف في جرح العلماء والتحذير منهم!. بل أكاد أجزم أنه لا هم له إلا تقديس ولاة الأمر وحرب العلماء!. واشتغالهم ببعض المسائل العلمية وخاصة العقدية والحديثية للتمويه، وتسهيل نشر الأفكار والمواقف السياسية التي يوظف تيارهم من أجل تحقيقها!.
إن العلماء اختلفوا في الماضي، ويختلفون في الحاضر، وسيختلفون في المستقبل، في مسائل علمية أصلية وفرعية، وفي مسائل واقعية سياسية وغير سياسية، بل الصحابة رضوان الله عليهم وقع منهم ذلك، فهل يبيح هذا التجني عليهم، والحط من أقدارهم؟!. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “من قواعد الشرع والحكمة -أيضا- أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر؛ فإنه يحتمل له مالا يحتمل لغيره، ويعفى عنه مالا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خبث والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث”. وهذا يصدق على العلماء كافة وكبراؤهم خاصة، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم على من يتعدى على مكانة العلماء بحكم شديد يبين عظم الجُرم وكبر الإثم، إذ قال صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه” رواه الحاكم.
وما ورد في فضل العلم وأهله تضيق عنه هذه المقالة، وحسبنا اشتهاره وانتشاره. وإنما بعثني على رقم هذه الأحرف في ذكرى يوم العلم ما نعيشه من خوض بالحق وبالباطل، من كل من مشى ودرج، وقال وكتب!!، في كل المسائل الشرعية وغير الشرعية. وخاصة من بعض الكتاب والإعلاميين!، الذين يُلامون قبل لوم من يكتب على شبكات التواصل الاجتماعي لمعرفتهم قبل غيرهم بمسؤولية الكلمة وأهمية التخصص.
فللأسف ثمة بعض الكتاب والصحافيين يحسبون حرية التعبير، إسقاطا للتخصص، وتجاوزا لكل الحدود، وإبطالا لكل الضوابط؛ فتراهم يخوضون في كل المواضيع، ويردون على الجميع، ويسارعون في إصدار الأحكام، ولا يتورعون عن الخوض في الأعراض!، وأرجو أن يتقبلوا هذه الملاحظة بصدر رحب!.
إن علماءنا حذرونا من مثل هذه الظواهر السلبية، وهذه نتف من آدابهم، وهم القوم لا يشقى متبعهم:
الأدب مع الأكابر: قال الإمام ابن المبارك: “إنا نهينا أن نتكلم عند أكابرنا”، والشاب الذي يخوض في خلاف هؤلاء الأكابر لم يلتزم بهذا الأدب القويم، ويزيدنا الإمام سفيان الثوري بيانا فيقول: “إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ، وإن كان قد بلغ من العلم مبلغا، فآيس من خيّره، فإنه قليل الحياء!”. وكفى بهذا فتنة.
يحكم على العلماء من هو أعلم منهم: ذكر القاضي عياض عن الإمام عبد الله بن أحمد الإبياني المالكي أنه: “سُئل يوما عن فقيهين من أصحابه، وتلاميذه، وهما أبو القاسم بن زيد، وسعيد بن ميمون. فقيل له: أيهما أفقه؟. فقال: إنما يفصل بين عالمين من هو أعلم منهما”، فانظروا إلى ورعه وأدبه حتى مع تلامذته، فكيف لو كان الأمر يتعلّق بشيوخه أو شيوخ شيوخه؟. فالذي يخوض في هذه القضايا إنما يجعل نفسه في مقام أعلم من العلماء!، وكفى بهذه فتنة.
الطعن في العلماء كبيرة: ما أروع ما قاله الإمام أبو سنان الأسدي المالكي: “إذا كان طالب العلم لا يتعلم أو قبل أن يتعلم مسألة في الدين، يتعلم الوقيعة في الناس، متى يفلح؟!”. وأشد منه قول ابن المبارك: “من استخف بالعلماء ذهبت آخرته”، ولله درّ الإمام مالك بن دينار إذ يقول: “كفى بالمرء شرا أن لا يكون صالحا، وهو يقع في الصالحين”، وأغزل كغزله فأقول: كفى بالمرء شرا أن لا يكون عالما، وهو يقع في العلماء!. وكفى بهذه فتنة!.
الجرأة على العلماء ترفع الدهماء: إذا تجرأ كل من هب ودب ولعب على الرد على العلماء والسخرية بهم، سقطت هيبتهم واتخذ الناس الرويبضة أئمة، وهنا تقع الواقعة، ليس لوقعتها دافعة!، قال الإمام الحافظ السخاوي: “إنما الناس بشيوخهم؛ فإذا ذهب الشيوخ فمع من العيش؟!”، وقال العلامة طاهر الجزائري: “عُدُّوا رجالكم، واغفروا لهم بعض زلاتهم، وعضوا عليهم بالنواجذ لتستفيد الأمة منهم، ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم”. وكفى بهذه فتنة!.
كلام العلماء في بعضهم يُطوى ولا يُروى: العلماء بشر غير معصومين، يعتريهم ما يعتري جميع الناس، من تنافس وربما تحاسد، والعبرة في أحكامهم لا في أخطائهم، وقد نقل لنا التاريخ حط الإمام ابن أبي ذئب على الإمام مالك، وحط الحافظ ابن صاعد على أبي داود، وحط ابن منده على أبي نُعيم، وغيرهم كثير، وكلهم من أئمة المسلمين، وللمعاصرين أمثالها، يقول الحافظ الذهبي: “كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرا من الأعصار سلم أهله من ذلك، سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم”.
ثم إن الله عز وجل أخبرنا في كتابه الكريم عن أهل الجنة في موضعين، أنه يدخلهم إليها بعد نزع الغل من صدورهم، وهذا يعني أن اختلافهم في الدنيا وصل إلى درجة غل بعضهم على بعض: {ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}، {إن المتقين في جنات وعيون * ادخلوها بسلام آمنين * ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين}.
وأحسب أن العلماء الذين وصل بهم الخلاف إلى مرحلة (الغل) سيكونون أسعد الناس بهذا، وسيكون أشقى الناس من تحمل كفلا من خلافهم بولوغه في أعراضهم، وكلامه فيما لا يعنيه، وقوله في دين الله أو واقع الناس بلا علم. وكفى بهذا فتنة. بل محنة وأي محنة!
إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة