لقد كانت حرية الرأي من آكد الحريات التي حرصت الشريعة على إقامتها؛ لذلك تجد الشارع الكريم قد حَكم قاعدة عظيمة، هي قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولٰئك هم المفلحون} آل عمران:104، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”. من الواضح جدا أن تحقيق هذه القاعدة لا يتم إلا بتحرير الأقوال والآراء من أي ضغط خارجي، مهما كان مصدره، ومهما كانت الظروف الداعية لذلك؛ لأنه من دون هذا العمل سوف تنقلب الحقائق وتعكس الصور، وقد يصبح المنكر معروفا والمعروف منكرا.
وعلى قاعدة حرية الرأي، دعا الإسلام الناس إلى التفكير والتدبر والنظر وإعمال العقل في كل شيء في الكون؛ قصد الوصول إلى الحقيقة الكبرى، ألا وهي توحيد الله تعالى، بل لم يتردّد في دعوة المخالفين لتقديم البراهين والحجج على ما يطرحونه من آراء بكل حرية ومناقشتها معهم دون حجر أو منع حتى يبيّن لهم الحق من الباطل فيرجعون إليه، فإذا امتنعوا عنه صاروا جاحدين ومكابرين، فلم يعد لحرية الرأي معهم معنى، وقد ورد هذا المعنى في نصوص قرآنية كثيرة، منها قوله تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} آل عمران:137، وقوله تعالى: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} الأنعام:99، وقوله تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} يونس:101، وقوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} الروم:21، وقوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق} الطارق:5، وقوله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإِبل كيف خلقت} الغاشية:17.
ولقد جسد أئمة الإسلام حرية الرأي واحترام الرأي المخالف في أرقى صورها، فهذا أبو حنيفة رحمه الله يقول: علمنا أن هذا الرأي أحسن ما قدرنا عليه، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى، ولنا ما رأينا، وعلى هذا النهج سار الأئمة الكرام. وأبعد من هذا ذهب الإمام الشافعي إلى أنه إذا أسلم أحد الزوجين لا يجوز عرض الإسلام على الآخر، وعلل الشافعي ذلك بقوله: (إن في هذا العرض تعرضا لهم، وقد ضمنا بعقد الذمة أن لا نتعرض لهم)، والمقصود من هذا الكلام هو عدم المس بحرية اختيارهم، فالشريعة بهذا لا توفر الحرية للمسلمين فحسب؛ بل الذين يعيشون تحت مظلة الإسلام وهم غير مسلمين، يتمتعون بالحق نفسه. وإلى جانب هذا كله، فقد حرصت الشريعة الإسلامية على إعطاء الحرية حقها كاملا من حيث القانون الفقهي، ومن حيث درجة الوضوح والبيان والضبط في تلك الأحكام.
ولقد كان هذا المنهج النبيل هو سلوك الصحابة والتابعين من بعدهم رضي الله عن الجميع في جميع البلاد التي فتحوها، حيث كانوا يستمعون لآراء أهلها وما يقولونه عن معتقداتهم، ويناقشونهم ويحاورونهم فيها، وينصتون لبراهينهم وحججهم وأدلتهم، ويردون عليها بما يدمغها، وبهذا السلوك الخلاق دخل الناس في دين الله أفواجا، وما انتشار الإسلام في إفريقيا إلا بهذا المنهج العالي.
ولقد حرصت الشريعة على تكوين علمائها على قول ما يعرفون وعدم النطق بما لا يعرفون ولو أجبروا عليه، وعلمتهم أن الحرية في الأقوال ليست هي قول كل شيء، وإنما هي قول ما يدرك الإنسان حقيقته والإمساك عندما لا يدرك ذلك. ولذلك، نجد في تراث الصحابة والتابعين وكبار العلماء عبارات مثل: لا أدري، لا أعرف، لا أعلم، لم أتحقق وغيرها. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (إذا ترك العالم قول: “لا أدري” أصيبت مقاتله)، وقال الإمام الشعبي رحمه الله عندما سئل عن مسألة: لا أدري، فقيل: ألا تستحي من قولك هذا وأنت فقيه العراقيين؟ فقال: إن الملائكة لم تستحِ إذ قالت: {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} البقرة:32.
* رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر