يقول سيد قطب رحمه الله في ظلاله: (الحمد لله هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله، فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضا من فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء، وفي كل لمحة، وفي كل لحظة، وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع، وتغمر خلائقه كلها، وبخاصة هذا الإنسان، ومن ثم كان الحمد لله ابتداء، وكان الحمد لله ختاما قاعدة من قواعد التصور الإسلامي).
محاسن ربنا سبحانه تعم الكائنات جميعا، محاسنه في ذاته، في أسمائه، في صفاته، يخبرنا بها فضلا منه ومنة، ويعرفنا بجلاله وجماله وكماله، محاسنه في لطفه وعلمه وعزه وقدرته، محاسنه في بره وجوده وفضله، محاسنه في إحسان خَلقه: {الذي أحسن كل شيء خَلَقَهُ}، محاسنه في إرسال رسله، وإنزال كتبه، محاسنه التي لا يأتي عليها عد ولا حصر، كل هذا وغيره متضمن كلمة الحمد لله، يجري بها لسان العبد، ويتجاوب الله مع عبده وهو يلفظها: “فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي”.
ومن فضائل الحمد لله أنها تملأ الميزان، كما في حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها”. ومن ذلك أنها أفضل الدعاء، فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أفضل الدعاء الحمد لله، وأفضل الذكر لا إله إلا الله”، وهذا فيض آخر من فيوضات الرب عز وجل، قال الحافظ المناوي: لأن الدعاء عبارة عن ذكر الله، وأن تطلب منه الحاجة، والحمد يشملهما، فإن الحامد لله إنما يحمده على نعمه، والحمد على النعم طلب المزيد، وهو رأس الشكر.
ومن فضائل هذه الكلمة المباركة أنها سبيل لرضا الله تعالى: “إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمده عليها”، وتمحو الذنوب، فهذه الكلمة التي لا تكلفنا عنتا، والتي نقولها بعد الفراغ من الطعام أو غيره تكفر الخطايا: “من أكل طعاما ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه”.
والحمد سبب من أسباب مباهاة الله تعالى بالحامدين ملائكته الكرام، فعن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: «ما يجلسكم؟»، قالوا: جلسنا نذكر الله عز وجل، ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنّ علينا به، قال: «آلله ما يجلسكم إلا ذلك؟»، قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: “أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن جبريل أتاني فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة”.
واعلم رعاك الله أن من أرقى ثمرات الحمد اليانعة أن الحامد لربه يكرمه المولى ببيت في الجنة يسمى بيت الحمد، فعند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسموه بيت الحمد”.
قال بكر بن عبد الله المزني: رأيت حمالا عليه حِمْلُه وهو يقول: الحمد لله، أستغفر الله، فانتظرته حتى وضع ما على ظهره، وقلت له: ما تحسن غير ذلك؟ قال: بلى أحسن خيرا كثيرا، غير أني رأيت أن العبد بين نعمة وذنب، فأحمد الله على نعمه السابغة، وأستغفره لذنوبي، فقلت: ويلك يا بكر حمال أفقه منك. وورد في طبقات الشافعية عن القاضي حسين قال: كنت عند القفال فأتاه قروي فشكا إليه أن حماره أخذه بعض أصحاب السلطان، فقال له القفال: اذهب فاغتسل وصل ركعتين، واسأل الله أن يرد عليك حمارك، فذهب القروي فاغتسل، ودخل المسجد وصلى، وكان القفال قد بعث من يرد حماره، فلما فرغ من صلاته وجد الحمار، فلما رآه على باب المسجد خرج وقال: الحمد لله الذي رد عليَّ حماري، فلما سئل القفال عن ذلك قال: أردت أن أحفظ عليه دينه كي يحمد الله تعالى.
*إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر1