إن تخصيص جزئي “حرية الرأي” بالبحث في ماهيته دون باقي جزئيات “كلي الحرية”، يرجع إلى كون هذا الأخير يعدّ قطب الرحى في كُلِي الحرية، وعليه مدار الصراع بين التفكير الإسلامي وما يقابله من التفكير في غيره من الحضارات.
إن حرية الرأي، أو ما يعبّر عنه أحيانا بحرية التعبير، هو عنصر من عناصر الحرية الكلية، وهو في حقيقته تابع لحرية المعتقد، إلا أنه يتضمن معنى زائدا عليه، فهو يحمل بعدا اجتماعيا، فالأقوال أو التعابير إنما هي متجهة بالخطاب إلى الآخرين وليست متجهة إلى ذات القائل، فمن وجوه الحرية المعتبرة أن يصدع الإنسان بالتعبير عما يراه حقا من الرؤى والأفكار والمعتقدات، ليُقنع بها الآخرين على أنها هي الحق، أو ليجمعهم عليها في منتظم جماعي، أو ليوجه سير الحياة بحسب مقتضياتها، فهذا الوجه من الحرية هو من جهة مكمّل للحرية الفردية في المعتقد إذ الأقوال هي ترجمان المعتقدات، وهو من جهة أخرى معدود من الحريات الجماعية باعتبار توجه الخطاب للمجتمع.
وبناء عليه، فإن حرية التعبير عن الرأي تعدّ من المسائل الجوهرية التي تدخل في صميم حقوق الإنسان في الإسلام، بل هي عمودها الفقري. ومع ذلك، فإننا نجد الكثيرين ممن عنونوا كتبهم وبحوثهم ومقالاتهم تحت عنوان حرية الرأي ومفهوم حرية الرأي، لم يذكروا تعريفا لها بالمعنى الاصطلاحي الدقيق للكلمة، وإنما عمدوا في غالب الأحيان إلى كتابة فقرة أو فقرات يتحدثون فيها عن هذا المعنى أو المفهوم. وفي المقابل، هناك فريق آخر قد قام بتعريفها، ونذكر منهم ما يأتي: فقد عرّفها الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه “حقوق الإنسان في الإسلام” بقوله: المقصود بحرية الرأي، أو القول والتعبير، والفكر هي: حق الإنسان في أن يفكر تفكيرا مستقلا في جميع ما يكتنفه، وأن يأخذ بما يهديه إليه رأيه، وأن يعبّر عن فكره بأي طريق، ذلك التعبير الذي قد يقترن بالجدال، أو المناقشة، أو تبادل الآراء. وقد عرّفها الدكتور سليمان بن عبد الرحمن العقيل في كتابه “حقوق الإنسان في الإسلام” بقوله: حرية الرأي: (هي أن يتمتع الإنسان بكامل حريته في الجهر بالحق، وإسداء النصيحة في أمر الدين أو الدنيا؛ فيما يحقق النفع، ويصون مصالح الفرد والمجتمع، فيما يتعلق بالحاكم أو المحكوم). وعرّفها الدكتور شهاب سليمان عبد الله في كتابه “حرية الرأي في الفقه السياسي الإسلامي” بقوله: هي حرية الجهر بالحق وإسداء النصح في كل ما يمس الأخلاق والمصالح العامة والنظام العام في كل ما تعتبره الشريعة الإسلامية فكرا. وقد نقل أحمد بن سعود السيابي في بحثه “حرية التعبير ضوابطها وأحكامها”، تعريفا لحرية الرأي والتعبير، جاء فيه: هي الحرية في التعبير عن الأفكار والآراء عن طريق الكلام أو الكتابة أو عمل فني بدون رقابة أو قيود حكومية، بشرط أن لا يمثل طريقة ومضمون الأفكار أو الآراء، ما يمكن اعتباره خرقا لقوانين وأعراف الدولة أو المجموعة التي سمحت بحرية التعبير.
وبالدرس والتحليل لهذه التعاريف، فإننا نسجل جملة من الملاحظات وهي: 1– يلاحظ على التعريف الأول لعلي عبد الواحد وافي أنه أطلق العنان للإنسان في الأخذ بكل النتائج التي توصل إليها برأيه مهما كانت، وكذلك له أن يسلك أي طريق شاء في التعبير عن رأيه وهذا ما لا تجيزه بهذا الإطلاق شريعة ولا قانون، فكل نظام أو قانون في العالم مهما كان مطاق الحرية إلا وله مقيّدات وضوابط، وهي حق الغير أو الصالح العام في تطبيق ذلك القانون. 2– إن جميع هذه التعاريف سقطت في الدور والتسلسل وذلك بذكر المُعَرَّف في نص التعريف، ألا وهو لفظ الحرية. 3– اتفقت كلمة التعاريف على أن هذه الحرية لابد أن تكون خادمة للصالح العام والنظام العام والقيم الأخلاقية. 4– إن التعبير عن الرأي الذي تقتضيه الحرية لا يكون بالكلام فقط، بل يكون بالكتابة وبالأعمال الفنية أيضا.
ومن خلال ما سبق، يمكننا ضبط التصور الدقيق لمفهوم “حرية الرأي” وتعريفها بما يأتي: حرية الرأي هي: تعبير الإنسان عن أفكاره وآرائه وتصوراته، من غير مانع ولا معارض، مع مراعاته للحدود الشرعية والأخلاق المرعية والمصالح العامة للمجتمع والأعراف التي تصالح الناس عليها.
* رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر