يقول الحق سبحانه: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما}، افتتحت هذه الآيات بقوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا}، فهذه الجملة الكريمة مبتدأ، والخبر قوله: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا}، وما بينهما من الموصولات صفات لهم، وإضافتهم إلى الرحمن من باب التشريف والتكريم والتفضيل.
والذي يعنينا في هذا المقام قول المولى سبحانه: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما، خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما}، والمعنى أن أولئك الذين اتصفوا بالصفات السابقة من عباد الرحمن، يثابون أعلى منازل الجنة بسبب صبرهم على المعاصي والطاعات، وسيلقون في الجنة التحية والتسليم من الملائكة.
اعلم رعاك الله أن دخول جنة الرحمن أمنية كل مؤمن ومؤمنة، ومطلب كل مسلم ومسلمة، عند الترمذي من حديث عن أبي هريرة قال: قلنا: يا رسول الله ما لنا إذا كنا عندك رقَّت قلوبنا، وزهدنا في الدنيا وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك فآنسنا أهالينا وشممنا أولادنا أنكرنا أنفسنا؟ فقال رسول الله: “لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي كنتم على حالكم ذلك لزارتكم الملائكة في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بخلق جديد كي يذنبوا فيغفر لهم”، قال: قلت: يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: “لبنة من فضة ولبنة من ذهب ومِلاطها (ما يوضع بين اللبنتين) المسك الْأَذْفَرُ (الشديد الرائحة)، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من دخلها ينعم ولا يبأس (البأس: العذاب والشدة في الحرب)، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم”.
فأبشر أيها المؤمن بدخول جنات لك فيها غرف مبنية، ومساكن طيّبة، قال تعالى: «إن في الجنة غرفا ترى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي: فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام”، فيا من جاهد نفسه في عبادة ربه، وتمسك بما تمسك به عباد الرحمن من حسن الصفات، وتجنب ما تجنبوه من سيء الصفات، أبشر بالراحة الكبرى عند لقاء ربك.
في الصحيح، يقول أبو قتادة بن ربعي رضي الله عنه: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقال: “مستريح ومستراح منه”، قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ قال: “العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها، إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب”، ولما حضرت الوفاة رسول الله، قالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه، فقال رسول الله: “لا كرب على أبيك بعد اليوم”، أراد المعصوم أن يقول لها: إن أيام الكرب والهم والتعب قد انتهت، وانطلقت أيام السعادة والراحة وبدأت.
عند الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن الربيع بنت النضر أتت النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابنها الحارث بن سراقة أصيب يوم بدر، فأتت رسول الله فقالت: أخبرني عن حارثة، لئن كان أصاب خيرا احتسبت وصبرت، وإن لم يصب الخير اجتهدت في الدعاء، فقال: “يا أم حارثة إنها جنة في جنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى”.
واعلم أيها الفاضل أن نعيم الجنة الأعظم ليس في بنائها وقصورها، ولا في ذهبها وفضتها، ولا في شرابها وطعامها، ولا في لباسها وحريرها، ولا في أنهارها وحورها، ولكن نعيم الجنة الأعظم النظر إلى وجه الله الكريم، فعند مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل”.
فجاهد نفسك وهواك يا مسلم، وافعل الخير ما استطعت، وأحسن علاقتك بالناس وعلاقتك بربك، حتى يأتي الموت وقد أديت وظيفة العبودية في حياتك، لتكونوا من الذين يشملهم قول الله تعالى: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما}.
*إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر1