القسّام.. هو أكثر الأسماء تداولا في أنحاء العالم منذ انبلاج فجر طوفان الأقصى المبارك، فالعالم أجمع يردد اسم كتائب عز الدين القسام، ويتابع بطولات أشاوسها الفذة مع إخوانهم المقاومين من سرايا القدس وأولوية الناصر صلاح الدين وكتائب أبي علي وغيرها من كتائب الجهاد والاستشهاد والفداء والمجد على أرض غزة العزة، وكتائب القسام هي أنكاها في العدو وأشدها عليه، لا جرم أن كانت شهرتها أكبر، وذكر القسام أكثر. فمن هو القسام الذي تشرفت كتائب الجهاد بحمل اسمه؟، أظن أن كثيرين لا يعرفون هذا العالم المجاهد الشهيد؟، وأخال أن كثيرين يودون لو يعرفون من هو؟
قبل تعريف القسام تعريفا موجزا مختصرا جدا، إذ تضيق هذه الكلمات عن الإحاطة بحياته الحافلة وإعطائه حقه ومستحقه، اسمحوا لي أن أعرج تعريجا سريعا على حديث شريف شهير، وهو قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «.. وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه أصحاب السنن. وهو حديث معروف ومعناه واضح مفهوم، وفيه تنويه كريم بمقام العلماء العظيم، إذ لا رتبة فوق رتبة النبوة ولا شرف فوق شرف وراثة تلك الرتبة، غير أنه كما نعى الله تعالى على أهل الكتاب إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعضه: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون}، فإننا ننعى على بعض الناس إيمانهم ببعض وراثة النبوة وكفرهم ببعضها، فالأصل أن تكون وراثة النبوة شاملة لكل المناحي: خلقا وإصلاحا وعلما وتعليما وتربية ودعوة وتزكية وجهادا، ولا يعقل أن تحصر وراثة النبوة في جانب واحد فقط، وهو العلم، وترداد الأقوال، وراثة النبوة ليست وراثة لكلام يحفظ أو يكتب ويردد في المجالس الوثيرة والغرفات المكيفة، كما يفعل كثير من العلماء والدعاة المنعمين!. نعم، العلم جهاد، لكن يكون كذلك حين يكون حربا على الكفر والضلال والانحراف، والفساد والمفسدين، حين يكون محركا للإصلاح ومدعاة للتغير، متفاعلا مع الواقع والأحداث، أما العلم الميت الذي لا يعدو نقل الكلمات من بطون الكتب إلى آذان الناس، فهو لا يمثل وراثة النبوة!. والعجيب أن عامة المسلمين في هذا الزمن يرون العالم هو من بضاعته الكلام فقط، وبالتحديد الذي لا يتكلم في قضايا الأمة، ولا اهتمام له بإصلاحها ونهضتها، ولا اهتمام له بقضاياها لا الكبرى ولا الصغرى، بل لا يتكلم في القضايا العامة إلا إذا احتاجه ولي الأمر، هنا يخرج عن مساره المعتاد؛ ليذكرنا بوجوب طاعة ولي أمره، ويحذرنا من المصلحين من العلماء والدعاة!!. والأعجب من هذا أن يتوجه شاب مسلم بسؤال هاته النماذج المشوهة من العلماء عن المجاهد الشهيد عز الدين القسام رحمه الله، فيكون جوابه متوقعا: مبتدع ضال، صوفي. ويسأله عن أبطال كتائب القسام، فيكون جوابه متوقعا: مبتدعون ضالون، إخوان مسلمون!!. والأغرب من ذلك كله أن يأخذ هذا الشاب المسلم بقول هؤلاء الذين انتفخ قولونهم من أكل الموز والمكسرات في حق هؤلاء الرجال الأبطال الذين يمثلون الطائفة المنصورة من أهل السنة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم!!. (وُرُوح اَعَقْلِي رُوح!!).
أظن الأمر واضحا بينا، فلنرجع للشيخ المجاهد عز الدين القسام؛ لنذكر نُتَفًا من المعلومات التي تعرفه إلى الناس، ومن أراد أن يعرفه جيدا فليقرأ بعض الكتب التي كتبت حوله أو ليشاهد بعض الوثائقيات التي أنجزت عنه وهي متوفرة.
هو الشيخ عز الدين ابن الشيخ عبد القادر مصطفى القسام، وأبوه كان من المشتغلين بعلوم الشريعة، ورب أسرة فقيرة، تعيش في مدينة جبلة بسوريا، وهذه ميزة أولى فهو سوري وليس فلسطينيا، فقضية فلسطين هي قضية كل المسلمين، والمسلم الحق لا يرتضي جنسية أعطاها له (سايكس وبيكو). ولد الشيخ عز الدين عام 1882م، وأخذ علومه الأولى على والده وشيوخ قريته، وظهرت عليه مخايل التفوق والتميز صغيرا، ثم رحل إلى الأزهر عام 1896م ودرس فيه على كبار شيوخه آنذاك في ظروف صعبة وضيق حال شديد واجهه بصبر وجلد وقوة عزيمة، وتأثر بالمجاهد الكبير جمال الدين الأفغاني، وتلميذه الأكبر محمد عبده، وتلميذه الشهير رشيد رضا رحمه الله. عاد إلى بلدته عام 1906م شيخا أزهريا فبدأ دعوته الإصلاحية معلما للأطفال في النهار ومرشدا للكبار في الليل، مخالطا للمجتمع مهتما بشؤونه، حريصا على حل مشاكل الناس، في تواضع كبير جعله موضع احترام وحب الجميع.
والميزة الثانية للشيخ القسام التي لا يشاركه فيها أحد حسب علمي أنه المجاهد الوحيد الذي جاهد ضد أربعة استعمارات: ضد الطليان، وضد الفرنسيين، وضد الإنجليز، وضد الصهاينة، ففي سنة 1911م احتلت إيطاليا ليبيا، فقام الشيخ بجمع التبرعات وجمع 250 متطوعا وانطلق عبر البحر إلى ليبيا، لكن منعته السلطات في مصر من اجتياز الحدود إلى ليبيا، فقام ببناء مدرسة بأموال التبرعات التي كانت معه؛ لوعيه الكبير بأن محاربة الجهل مثل محاربة الاستدمار سواء بسواء. ثم في عام 1920م اندلعت الثورة السورية استجابة لدعوة العلماء للجهاد وفي مقدمتهم المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني ومعه الشيخ علي الدقر والشيخ هاشم الخطيب وغيرهم من علماء الشام عليهم رحمة الله، وقاد الثورة المجاهد الكبير إبراهيم هنانو رحمه الله، وكان الشيخ عز الدين قائدا للثورة في منطقة جبل صهيون. وقد باع الشيخ منزله ليشتري السلاح، وهذه ميزة ثالثة للشيخ القسام، وقد تكرر منه هذا في فلسطين فباع بيته فيها مرة ثانية من أجل السلاح، من يفعل هذا بربكم إلا الصادقون؟: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}.
بعد انتهاء الثورة السورية هاجر الشيخ إلى حيفا بفلسطين، وهناك بدأ حياته من جديد، وبدأ الدعوة للإصلاح كما كان يفعل في سوريا، وقد كان من أوائل من شعر بخطر الصهيونية، وخطر الهجرة اليهودية، وخطر مكر الحكومة الاستدمارية البريطانية، فحول مسجده إلى مركز توعية وتعبئة، وصارت خطبه في جمعه خطبا نارية استقطبت المصلين من المناطق المحيطة به، وأسهمت إسهاما كبيرا في رفع مستوى الوعي عند عامة الناس، كما نشط نشاطا كبيرا في مدرسة البرج في تعليم الناشئة دينهم ولغتهم، وأسس جمعية الشبان المسلمين، والأهم من ذلك أنه أسس منظمة (الجهادية)، وهي منظمة سرية غايتها إعلان الجهاد ضد الإنجليز وعصابات الصهاينة، وذلك الذي كان فقد استقطب مجموعة من الشباب والرجال من الفلاحين خاصة، وعمل على تسليحهم وقد باع داره في سبيل ذلك كما أسلفت، وباع كثير من أتباعه متاع بيوتهم وحلي أزواجهم من أجل التسليح، ونظموا التدريبات لسنوات، انتظارا للفرصة الموائمة، بيد أن أحداثا أمنية وقعت اضطرتهم إلى بدء عملياتهم القتالية، وفي شهر نوفمبر 1935م حوصر الشهيد القسام مع مجموعة من رجاله في غابة يعبد شمال فلسطين، واشتبك مع قوات الإنجليز ومن معهم من الفرق العربية [القومية والحركى موجودون في كل مكان وزمان]، وطلب الشيخ من أتباعه تجنب إطلاق النار على القوات العربية الموالية للإنجليز؛ لأنه يراهم مكرهين، وهذا سهّل على الإنجليز القضاء عليه، فاستشهد هو (سوري)، ويوسف الزيباوي (فلسطيني)، وعطية أحمد (مصري) رحمهم الله جميعا يوم 20 نوفمبر 1935م، فكان اختلاف جنسياتهم درسا للمسلمين والعرب أن قضية فلسطين قضية كل المسلمين والعرب.
والعجيب أن الشهيد القسام قال في إحدى خطبه: (إنا علينا الاعتماد على أنفسنا، لا ننتظر حتى تهبط علينا النجدات من السماء، أو تأتينا من وراء الحدود)، وبعد 100 عام ما زال أهلنا في غزة لا ينتظرون هذه النجدات. ولكن الشهيد كان يقول أيضا: (إنه جهاد.. نصر أو استشهاد)، وبعد 100 عام ما زالت كلمتُه شعارا للأحرار، وستبقى.
*إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة