تسعى بلادنا لتحقيق الأمن الغذائي وضمان اكتفائها الذاتي من المحاصيل الإستراتيجية لا سيما زراعة الحبوب، وهذا من خلال السعي لدعم الاستثمار من أجل تقليص فاتورة الاستيراد وضمان الأمن الغذائي المستدام.
ولعل الظروف الراهنة التي فرضتها السياسات العالمية وتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري الذي انجر عنه قلة تساقط الأمطار وبالتالي إضعاف عملية الإنتاج، جعل الدولة تتبنى عدة إجراءات لبعث الاستثمار في مقومات المناطق الجنوبية حيث تتواجد الأراضي الشاسعة والخزانات الجوفية من المياه، والاعتماد على الفلاحة المدمجة من أجل تطوير الزراعات الإستراتيجية، مع إعادة استعمال المياه المبتذلة والمستعملة في السقي الزراعي في مناطق الشمال، خصوصا بعد امتلاك المعرفة والتكنولوجيا لكسب الرهان وبلوغ تصدير بعض المنتجات، حيث تحول رهان توفير الأمن الغذائي أولوية ملحة لدى السلطات ضمن الرؤية الشاملة والاستشرافية التي يطبقها رئيس الجمهورية التي تضع المواطن في قلب الاهتمامات لتحقيق انطلاقة جديدة نحو جزائر مزدهرة.
وكان رئيس الجمهورية في التزامه رقم 18 في بداية عهدته الانتخابية، قد أكد على وضع خطة استعجالية لتحديث الزراعة من خلال ضمان الأمن الغذائي وتلبية الاحتياجات الوطنية سواء في الإنتاج الحيواني أو الإنتاج الفلاحي كالخضر والفواكه والمنتجات المستوردة مثل السكر والزيت والذرة، مع إعادة تأهيل وتطوير الأراضي الزراعية بإمكانية اللجوء إلى الشراكة في مناطق السهوب والصحراء والجبال، وتطهير ملف الأراضي الفلاحية واستعادة الأراضي الفلاحية غير المستغلة، إضافة إلى تنمية الفلاحة كوسيلة لتنويع الاقتصاد الوطني والحد من اختلال الميزان التجاري للسلع الرئيسية.
وبعد نحو أربع سنوات من إطلاق مسعى "الجزائر الجديدة" تسير البلاد بخطى ثابتة في مجال تطوير وعصرنة القطاع الفلاحي من خلال إصلاحات هيكلية كتشجيع الاستثمار الفلاحي وتوفير العقار الفلاحي ورفع العراقبل في مجال التمويل وتوسيع الكهرباء الفلاحية، ما انعكس إيجابا على عديد المؤشرات، حيث بات القطاع الفلاحي يساهم بنحو السدس من الناتج الوطني الخام أي ما يفوق 25 مليار دولار وهو ما يمثل ربع اليد العاملة الناشطة ما يعادل 3 ملايين عامل، حيث قدرت قيمة الإنتاج الفلاحي سنة 2022 بـ4550 مليار دينار مقابل 3500 مليار دينار سنة 2021، وهذا العام تبشر بارتفاعها كذلك.
وبهذا أضحت الجزائر من الدول التي قطعت أشواطا كبيرة في مجال الامن الغذائي بفضل منجزات قطاعها الفلاحي الذي عرف قفزة نوعية خلال السنوات القليلة الماضية بالرغم من الظرف الدولي الصعب، فضلا عن التغيرات المناخية التي تشهدها عديد مناطق العالم. وإذا كانت نسبة تغطية الاحتياجات الغذائية من الإنتاج الوطني الفلاحي قد بلغت اليوم أكثر من 75 في المائة، وهو رقم يغطي مختلف الشعب الفلاحية التي يفوق عددها 25 شعبة لا سيما الخضر والفواكه، فإن العمل جار من قبل السلطات العمومية لتركيز الجهود على بلوغ الاكتفاء الذاتي في شعبة الحبوب لا سيما القمح اللين وتوسيع مساحات زراعته خصوصا في المساحات المسقية، من أجل تقليص تبعية البلاد للواردات، لما لهذا المحصول من طابع إستراتيجي وأهميته في النظام الغذائي الوطني من جانب، وما تشكله الواردات من عبء على اقتصاد البلاد من جانب آخر.
من أجل ذلك، يأتي المخطط الإستراتيجي لتنمية إنتاج الحبوب في الجزائر 2023-2028، الذي تم إطلاقه سبتمبر الماضي بمساهمة مسؤولين وخبراء وباحثين من قطاعات الفلاحة والتعليم العالي والبحث العلمي والبيئة والصناعة، لكسب رهان رفع مردودية شعبة الحبوب وتحسين الإنتاج وتطوير جودة البذور مع اتباع التقنيات الحديثة، لا سيما بعد إنشاء بنك البذور العام الفارط الذي يضم أزيد من 4.000 سلالة نباتية في إطار المشاريع الحيوية لتطوير الفلاحة التي حققتها الجزائر الجديدة لحماية مواردها البيولوجية، إضافة إلى العمل على استحداث البنك الوطني للجينات الذي يهدف إلى تأمين 80 ألف سلالة في مرحلة أولى.
كما تتضمن الإستراتيجية التي تبنتها بلادنا لضمان الأمن الغذائي السماح باستيراد المعدات الفلاحية أقل من 7 سنوات بجميع أنواعها بعد وقفها في سنة 2019 لتطوير المكننة، ودعم أسعار الأسمدة بنسبة 50 في المائة نتيجة ارتفاعها عالميا، مع تعويض الفلاحين المتضررين في الكوارث الطبيعية وتمكينهم من البذور بصفة مجانية، واستعادة 750 ألف هكتار من المساحات الفلاحية كانت غير مستغلة لإعادة توجيهها للاستثمار الفلاحي، خصوصا بعد إنشاء ديوان تنمية الزراعات الصناعية بالأراضي الصحراوية بناء على توجيهات رئيس الجمهورية بموجب المرسوم التنفيذي رقم 20/265 المؤرخ في 22 سبتمبر 2020 ومنح محيطات من المحفظة العقارية لاستقبال المشاريع الكبرى، إضافة إلى تخصيص حوالي 6,4 مليار دولار للديوان المهني للحبوب لتعزيز المخزون وتأمين الغذاء، مع إنجاز صومعات للتخزين واقتناء الحبوب من المنتجين والفلاحين بأسعار تحفيزية، وتكليف الديوان باستيراد البقوليات لضمان الاكتفاء الذاتي، خصوصا وأن الدولة تسعى إلى توسيع غرسها في بلادنا للكف عن استيرادها وضبط أسعارها في السوق.
وفي مجال اللحوم، سعت الدولة لدعم الموالين من خلال إنجاز مذابح جهوية منتشرة على المستوى الوطني ودعم الموالين بالأعلاف بكميات كبيرة، إضافة إلى إبرام اتفاقية ثلاثية لاقتناء رؤوس المواشي وتسويقها، وكذلك الحال لشعبة الدواجن من خلال تخفيض الضريبة على الأعلاف ومدخلات الإنتاج واستيراد الصيصان من الخارج لتوفير أمهات الدجاج بكميات كافية واقتناء المنتوج من طرف أجهزة الدولة لضبط السوق وحماية المنتجين والمربين.